مكان للشياطين
مكان للشياطين
أخذ كوت قضمة أخرى من عشاءه. “اذهب وانقعه. إذا أصبحت الأمور يائسة، أوصي بأن تستعين بالصيَغ العديدة من المذيبات الموجودة في ‘سيلوم تينتور’، الفصل الثالث عشر، على ما أعتقد.” “حسنًا.” نهض باست وسار نحو الباب بخطواته الغريبة المتعمدة. “نادِ إذا احتجت شيئًا.” أغلق الباب وراءه. أكل كوت ببطء، وهو يمسح آخر الحساء بقطعة من الخبز. نظر إلى الخارج من النافذة بينما كان يأكل، أو حاول ذلك، إذْ جعل ضوء المصباح سطح الزجاج يلمع كما المرآة مقابل الظلام خلفه. تجولت عيونه في الغرفة بلا هدف. كان الموقد مصنوعًا من نفس الصخر الأسود الموجود في الأسفل. كان يقع في وسط الغرفة، وما زال إنجازًا هندسيًا صغيرًا كان كوت فخورًا به. كان السرير صغيرًا، لا يعدو كونه سريرًا بسيطًا، وإذا لمسته لوجدت المرتبة بالكاد موجودة. قد يلاحظ المراقب الماهر أن هناك شيئًا كان نظره يتجنب النظر إليه. مثلما تتجنب النظر في عين حبيبة قديمة في عشاء رسمي، أو عين عدو قديم يجلس في الطرف الآخر من الغرفة، في حانة مزدحمة في وقت متأخر من الليل. حاول كوت الاسترخاء، لكنه فشل، وتحرك في مكانه، ثم تنهد، وغيّر وضعيته، ومن دون أن يشعر كانت عيونه قد وقعت على الصندوق في طرف السرير. كان مصنوعًا من خشب الرواه (roah)، خشب نادر وثقيل، داكن كالفحم وناعم كالزجاج المصقول. كان محبوبًا من قبل صانعي العطور والكيميائيين، وكان قطعة بحجم الإبهام تساوي بسهولة ثمن وزنه من الذهب. صُنْع صندوق من هذا الخشب يتجاوز الإسراف بكثير. كان الصندوق مختومًا (مقفلا) ثلاث مرات. كان له قفل من الحديد، وقفل من النحاس، وقفل لا يمكن رؤيته. ملأ الخشب الغرفة برائحة شبه غير ملحوظة من الحمضيات وحديد مُخمّد تم إخراجه من الفرن. عندما سقطت عيون كوت على الصندوق لم تبتعد بسرعة. لم تتحرك خلسة إلى الجنب كما لو كان سيدعي و يتظاهر أنه غير موجود تمامًا. لكن في لحظة من النظر، استعاد وجهه كل الخطوط التي كانت قد محتها بهجة اليوم البسيطة. تم محو الراحة التي وجدها في مسح زجاجاته وكتبه في ثانية، تاركة خلف عينيه فراغًا وألمًا. وفي لحظة، كان التوق الشديد والندم يتصارعان عبر وجهه الهادئ. ثم اختفت تلك الملامح، وحل مكانها وجه صاحب النزل المتعب، الرجل الذي يدعى كوت. تنهد مرة أخرى دون أن يشعر ودفع نفسه ليقف. استغرق وقتًا طويلًا قبل أن يمشي بجانب الصندوق إلى السرير. وعندما وصل إلى السرير، استغرق وقتًا طويلًا قبل أن ينام. كما كان كوت قد خمن، عادوا إلى “وايستون” في الليلة التالية لتناول العشاء والمشروبات. كانت هناك بعض المحاولات الضعيفة لسرد القصص، لكنها انقطعت بسرعة. لم يكن أحد في مزاج مناسب لذلك. لذا كان لا يزال في وقت مبكر من المساء عندما تحولت المناقشة إلى مسائل أكثر أهمية. تَم تداول الشائعات التي وصلت إلى البلدة، وكان معظمها مقلقًا. كان الملك التائب يواجه صعوبة مع المتمردين في ريزاڤيك (Resavek). تسبب هذا في بعض القلق، لكن فقط بشكل عام. كانت ريزافيك بعيدة جدًا، وحتى كوب، الأكثر دراية بالعالم، كان سيجد صعوبة في العثور عليها على الخريطة. ناقشوا الحرب بطرقهم الخاصة. توقع كوب فرض ضريبة ثالثة بعد جني المحاصيل و موسم الحصاد. لم يعترض أحد، رغم أنه لم يكن هناك عام شهد “ثلاث حالات نزيف” (الضرائب) في ذاكرتهم الحية. خمّن جيك أن الحصاد سيكون جيدًا بما يكفي حتى لا تكسر الضريبة الثالثة معظم العائلات. باستثناء البينتليز (the Bentleys) الذين كانوا في أوضاع صعبة على أي حال. والأوريسون (the Orissons)الذين كانت خرافهم تختفي باستمرار. و مارتن المجنون (Crazy Martin) الذي زرع شعيرًا هذا العام. كل مزارع ذو عقل -نصفه حتى- كان قد زرع الفاصوليا. كانت هذه ميزة واحدة في وسط كل هذه الحروب – الجنود يأكلون الفاصوليا كثيرا، والأسعار ستكون مرتفعة.
كان الليل قد أسدل ستاره، وقد اجتمع الحشد المعتاد في نُزل “وايستون”. خمسة أشخاص لا يُعدّون حشدًا كبيرًا، لكن خمسة هو أقصى ما اعتاد “وايستون” استقباله في هذه الأيام، بالنظر إلى ما آل إليه الحال.
كان العجوز ‘كوب’ (Cob) يؤدي دوره كراوٍ للقصص وناصحٍ لمن حوله. جلس الرجال عند البار يحتسون شرابهم ويصغون إليه بإمعان. وفي الغرفة الخلفية، وقف صاحب النزل الشاب مختبئًا خلف الباب، يبتسم وهو يُنصت إلى تفاصيل قصة يعرفها جيدًا.
“حين استيقظ ‘تابورلين’ (Taborlin) العظيم، وجد نفسه سجينًا في برجٍ عالٍ. كانوا قد أخذوا سيفه، وجُرّد من أدواته: المفتاح، والنقود، والشمعة… كل شيء اختفى. ولكن، لم يكن ذلك أسوأ ما في الأمر…”
توقّف ‘كوب’ لحظة، ليُضفي أثرًا على كلماته، ثم تابع: “…فالمصابيح المعلقة على الجدران كانت تشتعل بلونٍ أزرق!”
هزّ ‘غراهام’ (Graham) و’جيك’ (Jake) و’شيب’ (Shep) رؤوسهم بتفهم. لقد نشأ الثلاثة معًا، يستمعون دومًا إلى قصص ‘كوب’، ويهملون نصائحه.
ثم مال ‘كوب’ نحو المستمع الجديد الأكثر اهتمامًا و انتباها بين البقية، تلميذ الحداد، وقال: “أتدري ما معنى ذلك، يا فتى؟”
رغم أن الفتى كان أطول قامة من جميع الحاضرين، إلا أن الجميع في القرية اعتاد مناداته بـ”الفتى”، على الطريقة المعتادة في البلدات و القرى الصغيرة. ومن الأرجح أنه سيبقى يُدعى بهذا الاسم حتى تنمو لحيته، أو يُبرح أحدهم ضربًا و يعطيَه لكمة في أنفه بسبب ذلك.
أومأ الفتى ببطء، وقال: “التشاندريان.” [The Chandrian]
أومأ ‘كوب’ موافقًا، وقال بإعجاب: “صحيح. التشاندريان الجميع يعرف أن النار الزرقاء إحدى علاماتهم. ثم إنّه كان…”
فقاطعه الفتى فجأة: “لكن كيف عثروا عليه؟ ولماذا لم يقتلوه حين سنحت لهم الفرصة؟”
قاطعه قائلا ‘جيك’: “اصمت الآن، ستعرف كل الأجوبة في النهاية. دعه يُكمل القصة.”
قال ‘غراهام’: “لا داعي لكل هذا، يا جيك، الفتى فضولي فحسب. دعه و اشرب شرابك.”
تذمر ‘جيك’ قائلا: “لقد أنهيت شرابي بالفعل. أحتاج واحدا آخر، لكن صاحب النزل لا يزال يسلخ الجرذان في الغرفة الخلفية.”
ثم رفع صوته وضرب كأسه الفارغ على سطح البار المصنوع من خشب الماهوغني بدق أجوف و خفيف: “هيه! نحن رجال عطشى هنا!”
ظهر صاحب النزل حاملاً خمس أوعية من الحساء ورغيفين مستديرين دافئين من الخبز. ثم صبّ المزيد من الجعة لـ’جيك’، و’شيب’، و’كوب العجوز’، وهو يتحرك بكفاءة مستعجلة توحي بخبرة طويلة.
تُركت القصة جانبًا بينما انشغل الرجال بتناول عشائهم. التهم ‘كوب’ وعاءه من الحساء بكفاءة مفترسة لطالما لازمت حياة العزّاب. أما الآخرون، فكانوا لا يزالون ينفخون البخار عن أوعيتهم في حين أنهى هو آخر قطعة من رغيفه وعاد إلى مواصلة القصة.
قال: “كان على ‘تابورلين’ أن يهرب، ولكن حين نظر من حوله، رأى أن زنزانته بلا باب، ولا نوافذ. لم يكن حوله سوى حجر صلب أملس. كانت زنزانة لم يسبق لأي إنسان أن فرّ منها.
لكن ‘تابورلين’ كان يعرف الأسماء الحقيقية لكل الأشياء، لذا كانت له سلطة على كل شيء. فقال للحجر: ‘انكسر!’ فجأة انكسر الحجر.
تمزق الجدار كأنه ورقة، ومن خلال تلك الفتحة رأى السماء واستنشق هواء الربيع العذب.
تقدّم إلى الحافة، نظر إلى الأسفل، ومن دون أن يتردد، خطا إلى الهواء الطلق…”
اتسعت عينا الفتى بدهشة: “لا يمكن! لم يفعلها!”
هزّ ‘كوب’ رأسه بجدية: “بلى، سقط ‘تابورلين’، لكنه لم ييأس. فقد كان يعرف اسم الريح، ولهذا أطاعته الريح.
خاطب الريح، فاحتضنته ولامسته برفق. حملته إلى الأرض برقة كزغب شوك يتهادى في الهواء، وأنزلته على قدميه بخفة كقبلة أم على خدّ صغيرها.
وحين وصل إلى الأرض ولمس جانبه حيث طُعن، لم يجد إلا خدشًا بالكاد يُرى. وربما كان ذلك حظًا لا أكثر.” قال ‘كوب’ وهو يربّت على جانب أنفه بمعرفة، “أو ربما كان بسبب التعويذة التي كان يرتديها تحت قميصه.”
سأل الفتى بحماسة و دهشة، وفمه ممتلئ بالحساء: “أيّ تعويذة؟”
استند العجوز ‘كوب’ إلى كرسيه، سعيدًا بفرصة توسيع الحديث. “قبل بضعة أيام، التقى ‘تابورلين’ بحرفي على الطريق. ورغم أن ‘تابورلين’ لم يكن لديه ما يكفي من الطعام، إلا أنه شارك عشاءه مع الرجل العجوز.”
قال ‘غراهام’ بهدوء وهو يوجه حديثه للصبي: “شيء حكيم أن تفعله، الكل يعرف: ‘الحرفي يكافئ ثمن اللطف مرتين’ .”
“لا لا”، تمتم ‘جيك’ متذمرًا. “افهمها جيدًا: ‘نصيحة الحرفي تكافئ اللطف مرتين’ .”
*كتوضيح هنا يتحدثون عن أبيات في نشيد شعبي لديهم و لديهم اختلاف في توظيف الكلمات فقط*
“A tinker’s debt is always paid:
تحدث صاحب الحانة لأول مرة تلك الليلة: “في الواقع، أنتم تفوتون أكثر من نصفها”، قال وهو يقف في الباب خلف البار.
“دين الحرفي يُسدد دائمًا:
:1( Felling night ) هي إحدى الليالي الخاصة بتقويم عالم الرواية، والتي تتعلق بتقويم موسمي يتتبع المواسم والطقوس الزراعية و تشير إلى فصل الخريف أو فترة الحصاد، حيث يتم قطع الأشجار (أي “التقطيع” أو “القطع “) استعدادًا للشتاء. وهنا هي الليلة التي يحتفل فيها الناس بنهاية موسم الخريف.)
مرة مقابل أي صفقة بسيطة.
*إقرأ* رواياتنا* فقط* على* مو*قع م*لوك الرو*ايات ko*lno*vel ko*lno*vel. com “مجرد شيء سمعته مرة”، قال ‘كوت’ ليملأ الفراغ، وكان واضحًا عليه الإحراج من تدخله بحوارهم. أومأ العجوز ‘كوب’ برأسه قبل أن ينظف حلقه ويعود ليكمل القصة: ” الآن،… كانت تلك القلادة تساوي دلوًا كاملًا من نُبلات الذهب، لكن وبفضل لطف وطيبة تابورلين، باعها له الحرفي مقابل لا شيء سوى بنسٍ حديدي، وبنسٍ نحاسي، وبنسٍ فضي. كانت سوداء كسواد ليلة شتوية، وباردة كالثلج عند لمسها، لكن ما دامت معلّقة حول عنقه، فإن تابورلين سيظل في مأمن من شرور الكائنات الخبيثة، الشياطين وما شابهها.” قال ‘شيب’ بصوت خافت، وقد خيّم عليه شيء من الظل: “لبعتُ مالًا لا بأس به لقاء شيء كهذا هذه الأيام.” كان أكثرهم شرْبًا وأقلهم حديثًا طوال السهرة. الجميع كان يعلم أن شيئًا سيئًا قد وقع في مزرعته ليلة “سيندلنغ”* الماضية، لكن بما أنهم أصدقاء مقرّبون، فهم يدركون جيدًا أنه ليس من الحكمة الإلحاح عليه لمعرفة التفاصيل. على الأقل، ليس في هذا الوقت المبكر من المساء، ولا حتى وهم لا يزالون في وعيهم. *} كلمة “Cendling” (أو “Cendling night”) هي جزء من تقويم وهمي داخل عالم الرواية، تمامًا مثل “Felling night” التي سبق ذكرها. تشير إلى ليلة معينة في تقويمهم، وغالبًا هي مرتبطة بحدث مهم و قد يكون قاتما بناء على ترجمتها الحرفية و تشير ضمنيا لليلة يتم فيها إشعال الشموع أو نوع من التقديس…}
مرتين مقابل العون المجاني.
بدت على الرجال في البار علامات الدهشة لرؤية ‘كوت’ (Kote) واقفًا هناك. لقد كانوا يأتون إلى “وايستون” كل ليلة “فيلينج*” لمدة شهور، ولم يتدخل ‘كوت’ في الحديث من قبل. لكن، لا يمكن أن تتوقع منهم شيئًا آخر، في الحقيقة. فقد كان قد عاش في البلدة لمدة عام تقريبًا. وكان لا يزال يُعتبر غريبًا بالنسبة لهم. كان صبي الحدادة يعيش هنا منذ أن كان في الحادية عشرة، ولا يزال يُشار إليه بـ “ذلك الفتى الرانيشي” كما لو أن “رانيش” هي بلد بعيد وليس بلدة تبعد أقل من ثلاثين ميلًا عن بلدتهم . {
مرتين مقابل العون المجاني.
مكان للشياطين
ثلاث مرات مقابل أي إهانة.”
*هذا هو النشيد كاملا:
مكان للشياطين
“A tinker’s debt is always paid:
كانت هناك خطوات في الردهة، ودخل شاب الغرفة وهو يحمل وعاء من الحساء البخاري الذي رائحته مليئة بالفلفل. كان شابًا داكنًا وجذابًا، مبتسمًا بسرعة، وعيناه مليئتان بالدهاء. «لم تكن متأخرًا بهذا الشكل منذ أسابيع»، قال وهو يمد الوعاء. «لا بد أن هناك قصصًا جيدة الليلة، ريشي.» “ريشي” (Reshi) هو اسم آخر لصاحب الحانة، شبهُ لقب تقريبا. سحب الصوت زاوية فمه ليبتسم ابتسامة ساخرة بينما جلس في الكرسي العميق أمام المدفأة. «إذن، ماذا تعلمت اليوم، باست (Bast)؟» «اليوم، يا معلمي، تعلمت لماذا يتمتع العشاق العظماء ببصر أفضل من العلماء العظماء.» «ولماذا ذلك؟» سأل كوت، مع لمسة من المرح في صوته. أغلق باست الباب وعاد ليجلس في الكرسي الثاني، محولًا إياه ليتوجه نحو معلمه والمدفأة. تحرك برقة غريبة وكأنما يرقص. «حسنًا، ريشي، جميع الكتب الثمينة تكون في الأماكن ذات الإضاءة السيئة. لكن الفتيات الجميلات عادة ما يكن في ضوء الشمس وبالتالي يكون من السهل دراستهن بدون خطر على العين.» أومأ كوت: «لكن الطالب الذكي الاستثنائي يستطيع أن يأخذ كتابًا إلى الخارج، وبالتالي يطور نفسه دون أن يخشى إلحاق الضرر بحاسة البصر المحبوبة.» «فكرت في نفس الشيء، ريشي. كوني، بالطبع، طالبًا ذكيًا استثنائيًا.» «بالطبع.» قال كوت. «لكن عندما وجدت مكانًا في الشمس يمكنني فيه القراءة، جاءت فتاة جميلة وأعاقتني عن فعل أي شيء من هذا القبيل »، أنهى باست بحركة مبالغ فيها.
Once for any simple trade.
:1( Felling night ) هي إحدى الليالي الخاصة بتقويم عالم الرواية، والتي تتعلق بتقويم موسمي يتتبع المواسم والطقوس الزراعية و تشير إلى فصل الخريف أو فترة الحصاد، حيث يتم قطع الأشجار (أي “التقطيع” أو “القطع “) استعدادًا للشتاء. وهنا هي الليلة التي يحتفل فيها الناس بنهاية موسم الخريف.)
Twice for freely-given aid.
• “Tehus antausa eha!” : قد تعني ربما “تبًّا لك، أيها الشيطان!” (هنا قيلت بطريقة فكاهية و ساخرة أثناء طرده باست من الغرفة، مستخدمًا لغة Temic وكأنه يطرد شيطانًا بطقس مسرحي.)
Twice for freely-given aid.
*إقرأ* رواياتنا* فقط* على* مو*قع م*لوك الرو*ايات ko*lno*vel ko*lno*vel. com مرتين مقابل العون المجاني.
Thrice for any insult made*”.
تنهد كوت. «هل أستطيع بهذا أن أفترض أنني محق في ظني أنك لم تقرأ أي شيء من سيلوم تينتشر (Celum Tinture ) اليوم؟» Tinture* لا أعلم هل أصلها إنجليزي أم فرنسي لكن سنكمل على نطق تينتْشَرحسب ما ورد من بحثي*
بدت على الرجال في البار علامات الدهشة لرؤية ‘كوت’ (Kote) واقفًا هناك. لقد كانوا يأتون إلى “وايستون” كل ليلة “فيلينج*” لمدة شهور، ولم يتدخل ‘كوت’ في الحديث من قبل. لكن، لا يمكن أن تتوقع منهم شيئًا آخر، في الحقيقة. فقد كان قد عاش في البلدة لمدة عام تقريبًا. وكان لا يزال يُعتبر غريبًا بالنسبة لهم. كان صبي الحدادة يعيش هنا منذ أن كان في الحادية عشرة، ولا يزال يُشار إليه بـ “ذلك الفتى الرانيشي” كما لو أن “رانيش” هي بلد بعيد وليس بلدة تبعد أقل من ثلاثين ميلًا عن بلدتهم .
{
بدت على الرجال في البار علامات الدهشة لرؤية ‘كوت’ (Kote) واقفًا هناك. لقد كانوا يأتون إلى “وايستون” كل ليلة “فيلينج*” لمدة شهور، ولم يتدخل ‘كوت’ في الحديث من قبل. لكن، لا يمكن أن تتوقع منهم شيئًا آخر، في الحقيقة. فقد كان قد عاش في البلدة لمدة عام تقريبًا. وكان لا يزال يُعتبر غريبًا بالنسبة لهم. كان صبي الحدادة يعيش هنا منذ أن كان في الحادية عشرة، ولا يزال يُشار إليه بـ “ذلك الفتى الرانيشي” كما لو أن “رانيش” هي بلد بعيد وليس بلدة تبعد أقل من ثلاثين ميلًا عن بلدتهم . {
:1( Felling night ) هي إحدى الليالي الخاصة بتقويم عالم الرواية، والتي تتعلق بتقويم موسمي يتتبع المواسم والطقوس الزراعية و تشير إلى فصل الخريف أو فترة الحصاد، حيث يتم قطع الأشجار (أي “التقطيع” أو “القطع “) استعدادًا للشتاء. وهنا هي الليلة التي يحتفل فيها الناس بنهاية موسم الخريف.)
Twice for freely-given aid.
2: نسبة لبلدته الأصلية رانيش Rannish . }
مكان للشياطين
“مجرد شيء سمعته مرة”، قال ‘كوت’ ليملأ الفراغ، وكان واضحًا عليه الإحراج من تدخله بحوارهم.
أومأ العجوز ‘كوب’ برأسه قبل أن ينظف حلقه ويعود ليكمل القصة:
” الآن،… كانت تلك القلادة تساوي دلوًا كاملًا من نُبلات الذهب، لكن وبفضل لطف وطيبة تابورلين، باعها له الحرفي مقابل لا شيء سوى بنسٍ حديدي، وبنسٍ نحاسي، وبنسٍ فضي. كانت سوداء كسواد ليلة شتوية، وباردة كالثلج عند لمسها، لكن ما دامت معلّقة حول عنقه، فإن تابورلين سيظل في مأمن من شرور الكائنات الخبيثة، الشياطين وما شابهها.”
قال ‘شيب’ بصوت خافت، وقد خيّم عليه شيء من الظل: “لبعتُ مالًا لا بأس به لقاء شيء كهذا هذه الأيام.”
كان أكثرهم شرْبًا وأقلهم حديثًا طوال السهرة.
الجميع كان يعلم أن شيئًا سيئًا قد وقع في مزرعته ليلة “سيندلنغ”* الماضية، لكن بما أنهم أصدقاء مقرّبون، فهم يدركون جيدًا أنه ليس من الحكمة الإلحاح عليه لمعرفة التفاصيل. على الأقل، ليس في هذا الوقت المبكر من المساء، ولا حتى وهم لا يزالون في وعيهم.
*} كلمة “Cendling” (أو “Cendling night”) هي جزء من تقويم وهمي داخل عالم الرواية، تمامًا مثل “Felling night” التي سبق ذكرها. تشير إلى ليلة معينة في تقويمهم، وغالبًا هي مرتبطة بحدث مهم و قد يكون قاتما بناء على ترجمتها الحرفية و تشير ضمنيا لليلة يتم فيها إشعال الشموع أو نوع من التقديس…}
علاوة على ذلك، كانت الأمور سيئة بما فيه الكفاية دون أن نزيد الأمور تعقيدًا. كان كوب والبقية يعلمون أنه لا فائدة من التحدث عن ذلك. محاولة إقناع الناس لن تؤدي إلا إلى جعلهم مادة للسخرية، مثل مارتن المجنون الذي كان يحاول حفر بئر داخل منزله منذ سنوات. ومع ذلك، اشترى كل واحد منهم قطعة من الحديد البارد المُشكّل في الورشة، ثقيلة كما يمكنهم حملها بسهولة، ولم يقل أي منهم ما كان يفكر فيه. بدلًا من ذلك، اشتكوا من أن الطرق سيئة وتزداد سوءًا. تحدثوا عن التجار، والهاربين، والضرائب، ونقص الملح الذي سيجعلهم يواجهون صعوبة في فصل الشتاء. وتذكروا أنه قبل ثلاث سنوات، لم يكن أحد ليخطر بباله حتى قفل أبواب منزله في الليل، ناهيك عن إغلاقها بالكامل. اتخذت المحادثة مَنحى هابطًا من هناك، وعلى الرغم من أن أيًا منهم لم يقل ما كان يفكر فيه، انتهى المساء بنغمة قاتمة. كانت معظم الأمسيات تنتهي هكذا في هذه الأيام، في هذه الأوقات الصعبة.
قال العجوز ‘كوب’ بحكمة، وهو يأخذ رشفة طويلة:
“أجل، ومَن مِنّا لا يفعل؟”
قال الصبي: “لم أكن أعرف أن التشاندريان كانوا شياطين.”
“كنت قد سمعت…”
قاطعه جيك بحزم: “هم ليسوا شياطين. كانوا أول ستة أشخاص رفضوا اختيار طريق ‘تِيلُو’* (Tehlu)، فلعنهم ليظلوا يتجولون في الزوايا…”
{*هنا اسم لسامي في الرواية، أعوذ بالله}
وصل كوت إلى قمة السلالم وفتح الباب. كانت غرفته بسيطة، شبه رهبانية. كان هناك مدفأة من الحجر الأسود في وسط الغرفة، زوج من الكراسي، ومكتب صغير. الأثاث الوحيد الآخر كان سريرًا ضيقًا مع صندوق كبير داكن عند قدميه. لم يكن هناك شيء يزين الجدران أو يغطي الأرضية الخشبية.
قال كوب بحدة: “أأنت من يروي هذه القصة، يا جيكوب ووكر( الاسم الكامل Jacob Walker)؟”
“لأنه إن كنت أنت، فسأتركك تكملها بنفسك.”
تبادل الرجلان النظرات بحدة لوقت طويل. وفي النهاية، نظر جيك بعيدًا، هامسًا بشيء قد يكون اعتذارًا.
عاد كوب ليتحدث إلى الصبي: “هذه هي معضلة التشاندريان،” قال موضحًا: “من أين جاءوا؟ وأين يذهبون بعد أن ينجزون أفعالهم الدموية؟ هل هم بشر باعوا أرواحهم؟ شياطين؟ أرواح؟ لا أحد يعلم.” ثم ألقى كوب نظرة ازدراء شديدة نحو جيك. “ومع ذلك، كل جاهل يدعي أنه يعلم…”
تواصل السرد بعد ذلك في جدال حول طبيعة التشاندريان، والعلامات التي تشير إلى وجودهم، وما إذا كانت القلادة ستحمي تابورلين من اللصوص، أو الكلاب المجنونة، أو السقوط من على الحصان. وبدأ النقاش يأخذ طابعًا حادًا ، عندما انفجرت أبواب المكان فجأة.
نظر جيك نحو الباب وقال: “لقد تأخرت، يا ‘كارتر’ (Carter). أخبر هذا الأحمق عن الفرق بين الشيطان والكلب. الجميع يعلم…” ثم توقف فجأة في منتصف الجملة، وركض نحو الباب قائلاً: “يا إلهي، ما الذي حدث لك؟”
دخل كارتر إلى الضوء، وكان وجهه شاحبًا وملطخًا بالدم. كان يمسك ببطانية قديمة حول صدره، وكانت على شكل غريب كما لو كانت ملفوفة حول كتلة من الأعواد.
قفز أصدقاؤه عن مقاعدهم وتوجهوا نحوه فور رؤيته.
قال كارتر وهو يمشي ببطء إلى داخل الغرفة: “أنا بخير.” كانت عيناه تدوران بوحشية حول الحواف، كما لو كان حصانًا خائفًا. “أنا بخير، أنا بخير.”
أسقط البطانية المربوطة على أقرب طاولة، حيث ارتطمت بالأخشاب بشدة، كما لو كانت مليئة بالحجارة. كانت ملابسه مشققة بخطوط طويلة ومستقيمة. وكان قميصه الرمادي متهالكًا في معظم الأماكن، باستثناء تلك الأجزاء التي كانت ملتصقة بجسده، وقد تلطخ بلون أحمر داكن كئيب.
حاول غراهام أن يُجلسه على الكرسي.
«يا إلهي… اجلس يا كارتر. ماذا جرى لك؟ اجلس.»
هزّ كارتر رأسه بإصرار.
«قلت لك، أنا بخير. لم أُصب بأذى شديد.»
سأله غراهام:
«كم كان عددهم؟»
أجاب كارتر:
«واحد فقط. ولكن الأمر ليس كما تعتقد…»
«تبًّا لك! قلتُ لك يا كارتر!» صرخ العجوز كوب، بانفعال امتزج فيه الغضب بالخوف، ذلك النوع من الغضب الذي لا يصدر إلا من قريب أو صديق قريب.
«قلت لك مرارًا، منذ أشهر… لا ينبغي لك أن تخرج بمفردك، حتى إلى بايدن (Baedn)، لم يعد الأمر آمنًا.»
مدّ جيك يده ووضعها على ذراع العجوز ليهدّئه.
قال غراهام، وما زال يحاول أن يوجّه كارتر إلى الكرسي:
«اجلس فحسب، دعنا ننزع هذا القميص وننظّفك.»
هزّ كارتر رأسه مرة أخرى.
«أنا بخير. لقد أُصبت بجروح طفيفة، لكن معظم الدم ليس دمي… إنه دم ‘نيلِّي’ (Nelly). قفز عليها و هاجمها، قتلَها على بُعد ميلين من البلدة، بعد جسر أولدستون (Oldstone).»
ساد صمت ثقيل إثر هذا النبأ. وضع تلميذ الحداد يده على كتف كارتر مواسيًا.
قال بصوت خافت:
«يا للأسى… هذا مؤلم. لقد كانت وديعة كالحَمَل. لم تكن تعضّ أو تركل حين كنا نُحضرها لوضع حدوة الحصان. كانت أفضل فرس في البلدة. يا للأسف… لا أدري ماذا أقول.»
راح ينظر حوله حائرًا.
أفلح كوب أخيرًا في الإفلات من جيك، وقال مكرّرًا وهو يهزّ إصبعه في وجه كارتر:
«لقد أنذرتك! ثمة أناس هذه الأيام قد يقتلونك لقاء بضع قطع نقدية، فكيف إذا كان بحوزتك فرسٌ وعربة؟ وماذا ستفعل الآن؟ تجرّها بنفسك؟»
ساد صمت غير مريح. تبادل جيك وكوب نظرات متوترة، بينما عجز الآخرون عن إيجاد كلمات تواسي صديقهم.
أما صاحب الحانة، فقد تحرّك في السكون بحذر. كان يحمل أغراضًا بين ذراعيه، فتجاوز شيب بخفة، وبدأ يرتبها على الطاولة القريبة: وعاء ماء ساخن، مقصّ، قماش نظيف، قوارير زجاجية، إبرة وخيط.
تمتم كوب، وكأنه يحدّث نفسه:
«كل هذا ما كان ليقع لو أنه أصغى إليّ منذ البداية.»
حاول جيك أن يسكته، لكن كوب دفعه جانبًا.
«أقول الحقيقة لا غير. ما جرى لنيلّي أمر مؤسف، لا شك. ولكن إن لم يصغِ الآن، فسينتهي به الأمر قتيلاً هو الآخر. لا يحالفك الحظ مرّتين مع مثل أولئك الرجال.»
شدّ كارتر شفتيه حتى صارتا خطًّا رفيعًا، ثم مدّ يده وسحب طرف البطانية الملطّخة بالدم. الشيء الذي بداخلها انقلب مرة واحدة، ثم علق بالقماش. جذبه كارتر بقوة أشد، فانبعث صوت كخَشخشة حجارة ناعمة تفرغ من كيس فوق سطح الطاولة.
كان عنكبوتًا، بحجم عجلة عربة، شديد السواد كلون حجر الأردواز.
قفز تلميذ الحداد إلى الخلف واصطدم بطاولة، فكاد أن يسقط أرضًا.
تجمّدت ملامح كوب.
أما غراهام وشيب وجيك، فقد صدرت عنهم أصوات مرتجفة، وتراجعوا رافعين أيديهم نحو وجوههم.
حتى كارتر نفسه، ارتدّ خطوة إلى الوراء، كأنما بفعل رجفة عصبية.
وامتد الصمت في المكان كعرقٍ بارد.
قطّب صاحب الحانة حاجبيه وقال بصوت خفيض:
«لا يمكن أن يكونوا قد بلغوا هذا الحد من اتجاه الغرب بعد…»
ولولا السكون المخيّم، لما سمعه أحد.
لكنهم سمعوه.
وانتقلت أنظارهم من الشيء المرمي على الطاولة إلى صاحب الشعر الأحمر، يحدّقون فيه بصمت.
كان جيك أول من استطاع أن يتكلم:
«أأنت تعرف ما هذا؟»
كان صاحب الحانة شارد الذهن.
«سكرايل (Scrael) »، قال بتشتت. «كنت أظن أن الجبال…»
«سكرايل؟» قاطع جيك.
«بحق الجحيم، كوت. هل رأيت هذه الأشياء من قبل؟»
«ماذا؟» نظر صاحب الحانة ذو الشعر الأحمر إلى الأعلى بسرعة، كما لو كان يتذكر فجأة مكانه و من يكون هنا.
«أوه ،لا. لا، بالطبع لا.»
ومع رؤيته أنه كان الشخص الوحيد الذي يقترب من الشيء المظلم على الطاولة، تراجع خطوة محسوبة إلى الوراء.
«إنه مجرد شيء سمعته.»
حدّقوا فيه.
«هل تذكرون التاجر الذي مرّ من هنا منذ حوالي أسبوعين؟»
أومأ الجميع برؤوسهم.
«ذلك الوغد حاول أن يفرض عليّ عشرة قروش مقابل نصف رطل من الملح»، قال كوب تلقائيًا، مكررًا الشكوى ربما للمرة المئة.
«كنت أتمنى لو اشتريت بعضًا»، تمتم جيك. أومأ غراهام موافقًا بصمت.
«كان رجلاً قذرًا»، بصق كوب، وكأن الكلمات المألوفة توفر له بعض الراحة.
«ربما أُدفع له اثنين في وقت ضيق و أزمة ، لكن عشرة هذه سرقة!»
«ليس إذا كان هناك المزيد من هؤلاء على جوانب الطريق»، قال شيب بشكل قاتم.
توجهت الأنظار جميعًا إلى الشيء على الطاولة.
قال كوت سريعًا، وهو يراقب وجوه الجميع بينما كانوا يدرسون الشيء على الطاولة:
«قال لي إنه سمع عنها بالقرب من ميلكومب (Melcombe). ظننت أنه كان يحاول رفع الأسعار فقط.»
«ماذا قال أيضًا؟» سأل كارتر.
فكر صاحب الحانة للحظة ثم أومأ كتفيه:
«لم أحصل على القصة كاملة. كان في البلدة لبضع ساعات فقط.»
«أنا لا أحب العناكب»، قال تلميذ الحداد. بقي على الجانب الآخر من الطاولة على بعد حوالي خمسة عشر قدمًا.
«غطِّه بسرعة.»
«ليس عنكبوتًا»، قال جيك. «ليس له عيون، ألا ترى ذلك»
قال كارتر: «ليس له فم أيضًا»، مشيرًا : «كيف يأكل؟»
«وماذا يأكل أصلا ؟» قال شيب بشكل قاتم.
استمر صاحب الحانة في النظر إلى الشيء بفضول. اقترب منه، ممدًا يده. ابتعد الجميع أكثر عن الطاولة.
قال كارتر: «احترس، قدماه حادة مثل السكاكين.»
قال كوت: « إنها أكثر شبهاً بالموسات (شفرات الحلاقة).»
مرر أصابعه الطويلة على جسم السكرايل الأسود، الخالي من الملامح. «إنه ناعم وصلب، مثل الفخار.»
قال مساعد الحداد: «لا تعبث بها.»
بحذر، أخذ صاحب الحانة أحد الأرجل الطويلة والناعمة وحاول كسرها بيديه كما لو كانت عصا.
«ليس فخارًا»، قال مُعدلًا. وضعه على حافة الطاولة، ومال بجسده عليه. انكسرت الأرجل بصوت حاد.
«إنه أشبه بالحجر.»
نظر إلى كارتر. «كيف حصل على كل هذه الشقوق؟» أشار إلى الشقوق الدقيقة التي شوّهت السطح الأسود الأملس للجسم.
قال كارتر: «نيلِّي سقطت عليه. قفز من شجرة وبدأ يتسلق عليها، جريحًا إياها بأقدامه. كان يتحرك بسرعة. لم أكن أعرف ما الذي يحدث.»
جلس أخيرًا في الكرسي بناءً على إصرار غراهام مكملا : «تعثر و تشابك في الحزام وسقطَت عليه، فكسرت بعض أرجل هذا الشيء. ثم جاء نحوي، وصعد عليّ، يزحف على جسدي.»
عبر ذراعيه أمام صدره الملطخ بالدماء وارتجف. «تمكنت من دفعه عني وركلته بكل قوتي. ثم عاد عليّ مرة أخرى…»
توقف عن الكلام، وظهره شاحبًا.
أومأ صاحب الحانة برأسه وهو يواصل العبث بالشيء.
«لا يوجد دم. لا أعضاء. داخله رمادي فقط.» وخزه بإصبعه «إنه مثل الفطر.»
«يا إلهي، اتركه بحال سبيله»، طلب تلميذ الحداد. «أحيانًا تتحرك العناكب حتى بعد أن تقتلها.»
قال كوب بشكل ساخر: «استمعوا إلى أنفسكم. العناكب لا تكبر بهذا الحجم مثل الخنازير. أنتم تعرفون ما هذا.» نظر حوله، متواصلًا مع كل واحد منهم بنظرة. «إنه… شيطان.»
«أفضّل فكرتك الأولى، ريشي»، قال باست بعد تفكير غير مريح. «ثلاثة أو أربعة سكرايل سيجتاحون هذه المدينة مثل… مثل…» “مثل سكين حامية تمر عبر الزبدة؟” قال كوت “أكثر مثل عدة سكاكين حامية تمر عبر العديد من الفلاحين.” قال باست بلهجة جافة. “هؤلاء الناس لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. أراهن أنه لا يوجد في هذه البلدة ستة سيوف. ليس و كأن السيوف ستفيد كثيرًا ضد السكرايل.”
نظروا إلى الكائن المكسور. قال جيك: «أوه، هيا الآن»، معترضًا في الغالب بدافع العادة. «ليس مثل…»، وأشار بحركة غير مفهومة. «لا يمكن أن يكون…»
كان الجميع يعرف ما كان يفكر فيه. بالتأكيد هناك شياطين في العالم. لكنهم كانوا مثل ملائكة تهلو، مثل الأبطال والملوك. كانوا ينتمون إلى القصص التي تروى، إلى الأماكن البعيدة عن إدراكهم. كان تابورلين العظيم يستدعي النار والبرق لتدمير الشياطين. كان السامي تيلو يكسرهم و يحطمهم بيديه ويرسلهم صرعى إلى الفراغ المجهول. ليس الأمر و كأن صديق طفولة يقتل واحدًا منهم على مارة الطريق إلى بايدن-بريت (Baedn-Bryt). كان الأمر سخيفًا.
مرر كوت يده عبر شعره الأحمر، ثم كسر الصمت قائلاً: «هناك طريقة واحدة للتأكد»، وقال وهو يمد يده إلى جيبه. «الحديد أو النار.» أخرج كيسًا جلديًا ممتلئًا.
قال غراهام: «واسم ‘السامي’.»
«الشياطين تخاف من ثلاثة أشياء: الحديد البارد، والنار الطاهرة، واسم السامي المقدس.»
ضغط صاحب الحانة فمه في خط مستقيم لم يكن تمامًا تعبيرًا عن عبوس. “بالطبع”، قال وهو يفرغ كيسه على الطاولة ثم يمرر يده عبر العملات المتناثرة: تالنتات (talents) فضية ثقيلة، وقطع فضية رقيقة، وجوتات (Jots) نحاسية، ونصف بنسات مكسورة، ودرابس حديدية (drabs). “هل لدى أحدكم شيم (قطعة معدنية)؟” *عملات بداخل الرواية*
قال جيك: “استخدم فقط دراب.” “ذلك حديد جيد.”
قال صاحب الحانة: “لا أريد حديدًا جيدًا.” “الدراب يحتوي على الكثير من الكربون. إنه تقريبًا فولاذ.”
قال مساعد الحديد: “هو محق.” وأضاف: “لكن ليس كربونًا. يتم استخدام فحم الكوك لصنع الفولاذ. فحم الكوك والجير.”
أومأ صاحب الحانة تواضعًا للصبي. “أنت ذو معرفة، يا شاب. إنها مهنتك في النهاية.”
أخيرًا وجد بأصابعه الطويلة شيما في كومة العملات. رفعها قائلاً: “ها نحن ذا.” سأل جيك: “ماذا سيفعل هذا؟”
قال كوب بصوت غير واثق: “الحديد يقتل الشياطين، ولكن هذا واحد قد مات بالفعل. ربما لا يفعل شيئًا.”
«هناك طريقة واحدة لنكتشف الحقيقة.» نظر صاحب الحانة إلى وجوههم لفترة قصيرة، وكأنما كان يقيّمهم، ثم عاد إلى الطاولة بتصميم، فتراجعوا أكثر.
ضغط كوت الشيم الحديدي على الجانب الأسود للكائن، فصدر صوت طقطقة حادة، مثل خشب الصنوبر الذي ينكسر في نار حامية. ارتعش الجميع، ثم استرخوا عندما ظل الكائن ثابتًا. تبادل كوب والآخرون ابتسامات هزيلة، كما لو كانوا صبية خائفين من قصة شبح. لكن ابتساماتهم تلاشت بسرعة عندما ملأت الغرفةَ رائحةُ الزهور المتعفنة والشعر المحترق.
ضغط صاحب الحانة الشيم على الطاولة بإحكام. «حسنًا»، قال وهو يمسح يديه على مئزره. «أعتقد أن هذا قد حل الأمر. ماذا نفعل الآن؟»
نجح باست في إظهار بعض الخجل مبديا اعتذارا عميقا. نظر كوت إلى النار وهو يحاول أن يظهر وجهًا صارمًا وفشل. «آه، باست، آمل أن تكون الفتاة جميلة كنسيم دافئ في الظل. أنا معلم سيئ بقول ذلك، لكنني سعيد. أنا لست في حالة مزاجية لدرس طويل الآن.» مرَّت لحظة من الصمت. «تم الهجوم على كارتر الليلة من قبل سكرايلينغ (scraeling).» تلاشى ابتسام باست السهل مثل قناع مكسور، تاركًا وجهه شاحبًا ومصدومًا. «سكرايل؟» نهض نصف خطوة كما لو كان سيهرب من الغرفة، ثم ألقى ابتسامة محرجة وأجبر نفسه على العودة إلى كرسيه. «كيف عرفت؟ من الذي وجد جثته*؟» ( قصده هنا على كارتر) «هو لا يزال على قيد الحياة، باست. لقد أحضره. كان هناك واحد فقط.» «لا يوجد شيء اسمه سكرايلينغ واحد»، قال باست بصوت حازم. «أنت تعلم ذلك.» «أعلم»، قال كوت. «لكن الواقع هو أنه كان واحدًا فقط.» «وهو قتله؟» سأل باست. «لا يمكن أن يكون سكرايلينغ، ربما…» «باست، كان واحدًا من السكرايل»، قال كوت، وأعطاه نظرة جدية. «لقد رأيته.» نظر باست إلى النار بقلق، ثم استراح في كرسيه مرة أخرى. «لم يكن محظوظًا فحسب، وهذا كل شيء. حتى وإن كان، لقد أصيب بشدة. تم خياطة ثمانية و أربعين غرزة. استخدمت معظم خيوط الأمعاء الخاصة بي.» رفع كوت وعاء الحساء أمامه. «إذا سأل أحدهم، قل لهم إن جدي كان حارسًا في قافلة و علمني كيفية تنظيف وخياطة الجروح. كان الجميع في حالة من الصدمة لدرجة أنهم لم يسألوا عن ذلك الليلة، لكن غدًا ربما يطرأ بعض الفضول، لا أريد خوض ذلك.» نفخ في وعائه، مما أثار سحابة من البخار حول وجهه. «ماذا فعلت بالجثة؟» سأل باست «لم أفعل شيئًا معها»، قال كوت بتأكيد. «أنا فقط صاحب حانة. هذا النوع من الأمور يتجاوزني.» «ريشي، لا يمكنك فقط تركهم يتخبطون في هذا بمفردهم.» تنهد كوت. «لقد أخذوها إلى الكاهن. لقد فعلوا كل شيء صحيح لسبب خاطئ *.» *هنا كوت يقصد أن الخطأ الحقيقي ليس في الجهل، بل في تصرّف الناس بطريقة صحيحة ظاهريًا، ولكن دون وعي أو نية لسبب فعلها من الأصل.
بعد ساعات، كان صاحب الحانة يقف في باب وايستون، وعيونه تسترخي إلى الظلام. كانت آثار المصابيح من نوافذ الحانة تتناثر عبر الطريق التُّرابي وأبواب ورشة الحداد على الجهة المقابلة. لم يكن الطريق كبيرًا أو مكتظًا بالزوار. بدا أنه لا يؤدي إلى أي مكان، كما هي حال بعض الطرق. أخذ صاحب الحانة نفسًا عميقًا من هواء الخريف، وألقى نظرة حوله بتململ، كما لو كان ينتظر شيئًا يحدث.
“A tinker’s debt is always paid:
نادى على نفسه “كوت”. اختار هذا الاسم بعناية عندما جاء إلى هذا المكان. و في كل مكان ذهب إليه اختار اسمًا جديدًا لأسباب عديدة، بعضها عادي وبعضها غير عادي، ولعل أبرزها هو أن الأسماء كانت مهمة بالنسبة له.
نظر إلى الأعلى، فشاهد النجوم تتلألأ في عمق السَماء الداكنة بدون قمر. كان يعرفهم جميعًا، قصصهم وأسمائهم. كان يعرفهم كما يعرف يديه.
نزل ببصره، ثم تنهد كوتي دون أن يشعر بذلك، وعاد إلى الداخل. أغلق الباب وأغلق النوافذ العريضة للحانة، وكأنه يحاول أن يبتعد عن النجوم وأسمائهم المتنوعة.
بدأ يكنس الأرض بعناية، وهو يلتقط كل الزوايا. غسَل الطاولات والبار، كان يعمل بكفاءة صبورة. بعد ساعة من العمل، كانت المياه في دلوه ما تزال نظيفة بما يكفي لامرأة لتغسل يديها فيها.
وأخيرًا، سحب كرسيًا وراء البار وبدأ في تلميع مجموعة الزجاجات التي كانت بين البرميلين الكبيرين. لم يكن دقيقًا ومنظمًا كما في الأعمال الأخرى، وسرعان ما أصبح واضحًا أن التلميع كان مجرد عادة وعذر للمسها وإمساكها. همس قليلًا، لكنه لم يدرك ذلك، وكان سيتوقف لو عرف.
وأثناء تدوير الزجاجات بين يديه الطويلتين والأنيقتين، كان الحركة المألوفة تخفف بعض الخطوط المتعبة من وجهه، مما جعله يبدو أصغر، بلا شك، ليس في الثلاثين بعد. ليس قريبًا من الثلاثين. بدا شابا بالنسبة لصاحب حانة، شابا بالنسبة لرجل بهذا القدر من الخطوط المتعبة على وجهه.
*إقرأ* رواياتنا* فقط* على* مو*قع م*لوك الرو*ايات ko*lno*vel ko*lno*vel. com “مجرد شيء سمعته مرة”، قال ‘كوت’ ليملأ الفراغ، وكان واضحًا عليه الإحراج من تدخله بحوارهم. أومأ العجوز ‘كوب’ برأسه قبل أن ينظف حلقه ويعود ليكمل القصة: ” الآن،… كانت تلك القلادة تساوي دلوًا كاملًا من نُبلات الذهب، لكن وبفضل لطف وطيبة تابورلين، باعها له الحرفي مقابل لا شيء سوى بنسٍ حديدي، وبنسٍ نحاسي، وبنسٍ فضي. كانت سوداء كسواد ليلة شتوية، وباردة كالثلج عند لمسها، لكن ما دامت معلّقة حول عنقه، فإن تابورلين سيظل في مأمن من شرور الكائنات الخبيثة، الشياطين وما شابهها.” قال ‘شيب’ بصوت خافت، وقد خيّم عليه شيء من الظل: “لبعتُ مالًا لا بأس به لقاء شيء كهذا هذه الأيام.” كان أكثرهم شرْبًا وأقلهم حديثًا طوال السهرة. الجميع كان يعلم أن شيئًا سيئًا قد وقع في مزرعته ليلة “سيندلنغ”* الماضية، لكن بما أنهم أصدقاء مقرّبون، فهم يدركون جيدًا أنه ليس من الحكمة الإلحاح عليه لمعرفة التفاصيل. على الأقل، ليس في هذا الوقت المبكر من المساء، ولا حتى وهم لا يزالون في وعيهم. *} كلمة “Cendling” (أو “Cendling night”) هي جزء من تقويم وهمي داخل عالم الرواية، تمامًا مثل “Felling night” التي سبق ذكرها. تشير إلى ليلة معينة في تقويمهم، وغالبًا هي مرتبطة بحدث مهم و قد يكون قاتما بناء على ترجمتها الحرفية و تشير ضمنيا لليلة يتم فيها إشعال الشموع أو نوع من التقديس…}
وصل كوت إلى قمة السلالم وفتح الباب. كانت غرفته بسيطة، شبه رهبانية. كان هناك مدفأة من الحجر الأسود في وسط الغرفة، زوج من الكراسي، ومكتب صغير. الأثاث الوحيد الآخر كان سريرًا ضيقًا مع صندوق كبير داكن عند قدميه. لم يكن هناك شيء يزين الجدران أو يغطي الأرضية الخشبية.
*إقرأ* رواياتنا* فقط* على* مو*قع م*لوك الرو*ايات ko*lno*vel ko*lno*vel. com نادى على نفسه “كوت”. اختار هذا الاسم بعناية عندما جاء إلى هذا المكان. و في كل مكان ذهب إليه اختار اسمًا جديدًا لأسباب عديدة، بعضها عادي وبعضها غير عادي، ولعل أبرزها هو أن الأسماء كانت مهمة بالنسبة له. نظر إلى الأعلى، فشاهد النجوم تتلألأ في عمق السَماء الداكنة بدون قمر. كان يعرفهم جميعًا، قصصهم وأسمائهم. كان يعرفهم كما يعرف يديه. نزل ببصره، ثم تنهد كوتي دون أن يشعر بذلك، وعاد إلى الداخل. أغلق الباب وأغلق النوافذ العريضة للحانة، وكأنه يحاول أن يبتعد عن النجوم وأسمائهم المتنوعة. بدأ يكنس الأرض بعناية، وهو يلتقط كل الزوايا. غسَل الطاولات والبار، كان يعمل بكفاءة صبورة. بعد ساعة من العمل، كانت المياه في دلوه ما تزال نظيفة بما يكفي لامرأة لتغسل يديها فيها. وأخيرًا، سحب كرسيًا وراء البار وبدأ في تلميع مجموعة الزجاجات التي كانت بين البرميلين الكبيرين. لم يكن دقيقًا ومنظمًا كما في الأعمال الأخرى، وسرعان ما أصبح واضحًا أن التلميع كان مجرد عادة وعذر للمسها وإمساكها. همس قليلًا، لكنه لم يدرك ذلك، وكان سيتوقف لو عرف. وأثناء تدوير الزجاجات بين يديه الطويلتين والأنيقتين، كان الحركة المألوفة تخفف بعض الخطوط المتعبة من وجهه، مما جعله يبدو أصغر، بلا شك، ليس في الثلاثين بعد. ليس قريبًا من الثلاثين. بدا شابا بالنسبة لصاحب حانة، شابا بالنسبة لرجل بهذا القدر من الخطوط المتعبة على وجهه.
كانت هناك خطوات في الردهة، ودخل شاب الغرفة وهو يحمل وعاء من الحساء البخاري الذي رائحته مليئة بالفلفل. كان شابًا داكنًا وجذابًا، مبتسمًا بسرعة، وعيناه مليئتان بالدهاء. «لم تكن متأخرًا بهذا الشكل منذ أسابيع»، قال وهو يمد الوعاء. «لا بد أن هناك قصصًا جيدة الليلة، ريشي.»
“ريشي” (Reshi) هو اسم آخر لصاحب الحانة، شبهُ لقب تقريبا. سحب الصوت زاوية فمه ليبتسم ابتسامة ساخرة بينما جلس في الكرسي العميق أمام المدفأة. «إذن، ماذا تعلمت اليوم، باست (Bast)؟»
«اليوم، يا معلمي، تعلمت لماذا يتمتع العشاق العظماء ببصر أفضل من العلماء العظماء.»
«ولماذا ذلك؟» سأل كوت، مع لمسة من المرح في صوته.
أغلق باست الباب وعاد ليجلس في الكرسي الثاني، محولًا إياه ليتوجه نحو معلمه والمدفأة. تحرك برقة غريبة وكأنما يرقص. «حسنًا، ريشي، جميع الكتب الثمينة تكون في الأماكن ذات الإضاءة السيئة. لكن الفتيات الجميلات عادة ما يكن في ضوء الشمس وبالتالي يكون من السهل دراستهن بدون خطر على العين.»
أومأ كوت: «لكن الطالب الذكي الاستثنائي يستطيع أن يأخذ كتابًا إلى الخارج، وبالتالي يطور نفسه دون أن يخشى إلحاق الضرر بحاسة البصر المحبوبة.»
«فكرت في نفس الشيء، ريشي. كوني، بالطبع، طالبًا ذكيًا استثنائيًا.»
«بالطبع.» قال كوت.
«لكن عندما وجدت مكانًا في الشمس يمكنني فيه القراءة، جاءت فتاة جميلة وأعاقتني عن فعل أي شيء من هذا القبيل »، أنهى باست بحركة مبالغ فيها.
“A tinker’s debt is always paid:
تنهد كوت. «هل أستطيع بهذا أن أفترض أنني محق في ظني أنك لم تقرأ أي شيء من سيلوم تينتشر (Celum Tinture ) اليوم؟»
Tinture* لا أعلم هل أصلها إنجليزي أم فرنسي لكن سنكمل على نطق تينتْشَرحسب ما ورد من بحثي*
*إقرأ* رواياتنا* فقط* على* مو*قع م*لوك الرو*ايات ko*lno*vel ko*lno*vel. com مرتين مقابل العون المجاني.
نجح باست في إظهار بعض الخجل مبديا اعتذارا عميقا.
نظر كوت إلى النار وهو يحاول أن يظهر وجهًا صارمًا وفشل. «آه، باست، آمل أن تكون الفتاة جميلة كنسيم دافئ في الظل. أنا معلم سيئ بقول ذلك، لكنني سعيد. أنا لست في حالة مزاجية لدرس طويل الآن.» مرَّت لحظة من الصمت. «تم الهجوم على كارتر الليلة من قبل سكرايلينغ (scraeling).»
تلاشى ابتسام باست السهل مثل قناع مكسور، تاركًا وجهه شاحبًا ومصدومًا. «سكرايل؟» نهض نصف خطوة كما لو كان سيهرب من الغرفة، ثم ألقى ابتسامة محرجة وأجبر نفسه على العودة إلى كرسيه. «كيف عرفت؟ من الذي وجد جثته*؟» ( قصده هنا على كارتر)
«هو لا يزال على قيد الحياة، باست. لقد أحضره. كان هناك واحد فقط.»
«لا يوجد شيء اسمه سكرايلينغ واحد»، قال باست بصوت حازم. «أنت تعلم ذلك.»
«أعلم»، قال كوت. «لكن الواقع هو أنه كان واحدًا فقط.»
«وهو قتله؟» سأل باست. «لا يمكن أن يكون سكرايلينغ، ربما…»
«باست، كان واحدًا من السكرايل»، قال كوت، وأعطاه نظرة جدية. «لقد رأيته.»
نظر باست إلى النار بقلق، ثم استراح في كرسيه مرة أخرى. «لم يكن محظوظًا فحسب، وهذا كل شيء. حتى وإن كان، لقد أصيب بشدة. تم خياطة ثمانية و أربعين غرزة. استخدمت معظم خيوط الأمعاء الخاصة بي.» رفع كوت وعاء الحساء أمامه. «إذا سأل أحدهم، قل لهم إن جدي كان حارسًا في قافلة و علمني كيفية تنظيف وخياطة الجروح. كان الجميع في حالة من الصدمة لدرجة أنهم لم يسألوا عن ذلك الليلة، لكن غدًا ربما يطرأ بعض الفضول، لا أريد خوض ذلك.»
نفخ في وعائه، مما أثار سحابة من البخار حول وجهه.
«ماذا فعلت بالجثة؟» سأل باست
«لم أفعل شيئًا معها»، قال كوت بتأكيد. «أنا فقط صاحب حانة. هذا النوع من الأمور يتجاوزني.»
«ريشي، لا يمكنك فقط تركهم يتخبطون في هذا بمفردهم.»
تنهد كوت. «لقد أخذوها إلى الكاهن. لقد فعلوا كل شيء صحيح لسبب خاطئ *.»
*هنا كوت يقصد أن الخطأ الحقيقي ليس في الجهل، بل في تصرّف الناس بطريقة صحيحة ظاهريًا، ولكن دون وعي أو نية لسبب فعلها من الأصل.
كان الليل قد أسدل ستاره، وقد اجتمع الحشد المعتاد في نُزل “وايستون”. خمسة أشخاص لا يُعدّون حشدًا كبيرًا، لكن خمسة هو أقصى ما اعتاد “وايستون” استقباله في هذه الأيام، بالنظر إلى ما آل إليه الحال. كان العجوز ‘كوب’ (Cob) يؤدي دوره كراوٍ للقصص وناصحٍ لمن حوله. جلس الرجال عند البار يحتسون شرابهم ويصغون إليه بإمعان. وفي الغرفة الخلفية، وقف صاحب النزل الشاب مختبئًا خلف الباب، يبتسم وهو يُنصت إلى تفاصيل قصة يعرفها جيدًا. “حين استيقظ ‘تابورلين’ (Taborlin) العظيم، وجد نفسه سجينًا في برجٍ عالٍ. كانوا قد أخذوا سيفه، وجُرّد من أدواته: المفتاح، والنقود، والشمعة… كل شيء اختفى. ولكن، لم يكن ذلك أسوأ ما في الأمر…” توقّف ‘كوب’ لحظة، ليُضفي أثرًا على كلماته، ثم تابع: “…فالمصابيح المعلقة على الجدران كانت تشتعل بلونٍ أزرق!” هزّ ‘غراهام’ (Graham) و’جيك’ (Jake) و’شيب’ (Shep) رؤوسهم بتفهم. لقد نشأ الثلاثة معًا، يستمعون دومًا إلى قصص ‘كوب’، ويهملون نصائحه. ثم مال ‘كوب’ نحو المستمع الجديد الأكثر اهتمامًا و انتباها بين البقية، تلميذ الحداد، وقال: “أتدري ما معنى ذلك، يا فتى؟” رغم أن الفتى كان أطول قامة من جميع الحاضرين، إلا أن الجميع في القرية اعتاد مناداته بـ”الفتى”، على الطريقة المعتادة في البلدات و القرى الصغيرة. ومن الأرجح أنه سيبقى يُدعى بهذا الاسم حتى تنمو لحيته، أو يُبرح أحدهم ضربًا و يعطيَه لكمة في أنفه بسبب ذلك. أومأ الفتى ببطء، وقال: “التشاندريان.” [The Chandrian] أومأ ‘كوب’ موافقًا، وقال بإعجاب: “صحيح. التشاندريان الجميع يعرف أن النار الزرقاء إحدى علاماتهم. ثم إنّه كان…” فقاطعه الفتى فجأة: “لكن كيف عثروا عليه؟ ولماذا لم يقتلوه حين سنحت لهم الفرصة؟” قاطعه قائلا ‘جيك’: “اصمت الآن، ستعرف كل الأجوبة في النهاية. دعه يُكمل القصة.” قال ‘غراهام’: “لا داعي لكل هذا، يا جيك، الفتى فضولي فحسب. دعه و اشرب شرابك.” تذمر ‘جيك’ قائلا: “لقد أنهيت شرابي بالفعل. أحتاج واحدا آخر، لكن صاحب النزل لا يزال يسلخ الجرذان في الغرفة الخلفية.” ثم رفع صوته وضرب كأسه الفارغ على سطح البار المصنوع من خشب الماهوغني بدق أجوف و خفيف: “هيه! نحن رجال عطشى هنا!” ظهر صاحب النزل حاملاً خمس أوعية من الحساء ورغيفين مستديرين دافئين من الخبز. ثم صبّ المزيد من الجعة لـ’جيك’، و’شيب’، و’كوب العجوز’، وهو يتحرك بكفاءة مستعجلة توحي بخبرة طويلة. تُركت القصة جانبًا بينما انشغل الرجال بتناول عشائهم. التهم ‘كوب’ وعاءه من الحساء بكفاءة مفترسة لطالما لازمت حياة العزّاب. أما الآخرون، فكانوا لا يزالون ينفخون البخار عن أوعيتهم في حين أنهى هو آخر قطعة من رغيفه وعاد إلى مواصلة القصة. قال: “كان على ‘تابورلين’ أن يهرب، ولكن حين نظر من حوله، رأى أن زنزانته بلا باب، ولا نوافذ. لم يكن حوله سوى حجر صلب أملس. كانت زنزانة لم يسبق لأي إنسان أن فرّ منها. لكن ‘تابورلين’ كان يعرف الأسماء الحقيقية لكل الأشياء، لذا كانت له سلطة على كل شيء. فقال للحجر: ‘انكسر!’ فجأة انكسر الحجر. تمزق الجدار كأنه ورقة، ومن خلال تلك الفتحة رأى السماء واستنشق هواء الربيع العذب. تقدّم إلى الحافة، نظر إلى الأسفل، ومن دون أن يتردد، خطا إلى الهواء الطلق…” اتسعت عينا الفتى بدهشة: “لا يمكن! لم يفعلها!” هزّ ‘كوب’ رأسه بجدية: “بلى، سقط ‘تابورلين’، لكنه لم ييأس. فقد كان يعرف اسم الريح، ولهذا أطاعته الريح. خاطب الريح، فاحتضنته ولامسته برفق. حملته إلى الأرض برقة كزغب شوك يتهادى في الهواء، وأنزلته على قدميه بخفة كقبلة أم على خدّ صغيرها. وحين وصل إلى الأرض ولمس جانبه حيث طُعن، لم يجد إلا خدشًا بالكاد يُرى. وربما كان ذلك حظًا لا أكثر.” قال ‘كوب’ وهو يربّت على جانب أنفه بمعرفة، “أو ربما كان بسبب التعويذة التي كان يرتديها تحت قميصه.” سأل الفتى بحماسة و دهشة، وفمه ممتلئ بالحساء: “أيّ تعويذة؟” استند العجوز ‘كوب’ إلى كرسيه، سعيدًا بفرصة توسيع الحديث. “قبل بضعة أيام، التقى ‘تابورلين’ بحرفي على الطريق. ورغم أن ‘تابورلين’ لم يكن لديه ما يكفي من الطعام، إلا أنه شارك عشاءه مع الرجل العجوز.” قال ‘غراهام’ بهدوء وهو يوجه حديثه للصبي: “شيء حكيم أن تفعله، الكل يعرف: ‘الحرفي يكافئ ثمن اللطف مرتين’ .” “لا لا”، تمتم ‘جيك’ متذمرًا. “افهمها جيدًا: ‘نصيحة الحرفي تكافئ اللطف مرتين’ .” *كتوضيح هنا يتحدثون عن أبيات في نشيد شعبي لديهم و لديهم اختلاف في توظيف الكلمات فقط*
كتوضيح : قد يرى كوت أن هؤلاء الناس يفعلون الأمور “الصحيحة” — يجتمعون، يتأكدون، يخبرون السلطات، يتكلّمون عن كشف الحديد والنار للشياطين …لكنّهم لا يدركون لماذا يفعلون ذلك، وليس لديهم النية أو العمق أو الفهم الكافي، بل مجردخوف وتكرار لما سمعوه(السببالخاطئ هنا).مثل أغلبنا في الواقع الذين نعرفطريقة الحساب بالعلاقات و القواعد في العلوم لكننا نجهلأصلها و السبب فياستعمالنا لها…*
ثلاث مرات مقابل أي إهانة.” *هذا هو النشيد كاملا:
فتح باست فمه، لكن كوت أكمل قبل أن يتمكن من قول أي شيء. «نعم، تأكدت من أن الحفرة كانت عميقة بما يكفي. نعم، تأكدت من وجود خشب روان (rowan) في النار. نعم، تأكدت من أنها اشتعلت لفترة طويلة وكانت ساخنة قبل دفنها. ونعم، تأكدت من أن لا أحد أخذ قطعة منه كتذكار.» عبس، مجعدا حاجبيه معًا. «أنا لست أحمق، كما تعلم.»
استرخى باست بشكل ملحوظ، وعاد إلى كرسيه. «أعلم أنك لست أحمقًا، ريشي. لكنني لا أثق في نصف هؤلاء الناس لكي يقضوا حاجاتهم بدون مساعدة.» ثم نظر متأملًا. «لا أستطيع أن أتخيل لماذا كان هناك واحد فقط.»
«ربما ماتوا وهم يعبرون الجبال»، اقترح كوت. «كلهم ما عدا هذا الواحد.»
«من الممكن»، اعترف باست بتردد.
«ربما كانت العاصفة منذ بضعة أيام هي السبب»، أشار كوتي. «عاصفة قوية جدًا، كما كنا نقول في الفِرَق. الرياح والأمطار قد تُفرّق واحدا عن القطيع.»
تحدث صاحب الحانة لأول مرة تلك الليلة: “في الواقع، أنتم تفوتون أكثر من نصفها”، قال وهو يقف في الباب خلف البار. “دين الحرفي يُسدد دائمًا:
«أفضّل فكرتك الأولى، ريشي»، قال باست بعد تفكير غير مريح. «ثلاثة أو أربعة سكرايل سيجتاحون هذه المدينة مثل… مثل…»
“مثل سكين حامية تمر عبر الزبدة؟” قال كوت
“أكثر مثل عدة سكاكين حامية تمر عبر العديد من الفلاحين.” قال باست بلهجة جافة.
“هؤلاء الناس لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. أراهن أنه لا يوجد في هذه البلدة ستة سيوف. ليس و كأن السيوف ستفيد كثيرًا ضد السكرايل.”
قال كوب بحدة: “أأنت من يروي هذه القصة، يا جيكوب ووكر( الاسم الكامل Jacob Walker)؟” “لأنه إن كنت أنت، فسأتركك تكملها بنفسك.” تبادل الرجلان النظرات بحدة لوقت طويل. وفي النهاية، نظر جيك بعيدًا، هامسًا بشيء قد يكون اعتذارًا. عاد كوب ليتحدث إلى الصبي: “هذه هي معضلة التشاندريان،” قال موضحًا: “من أين جاءوا؟ وأين يذهبون بعد أن ينجزون أفعالهم الدموية؟ هل هم بشر باعوا أرواحهم؟ شياطين؟ أرواح؟ لا أحد يعلم.” ثم ألقى كوب نظرة ازدراء شديدة نحو جيك. “ومع ذلك، كل جاهل يدعي أنه يعلم…” تواصل السرد بعد ذلك في جدال حول طبيعة التشاندريان، والعلامات التي تشير إلى وجودهم، وما إذا كانت القلادة ستحمي تابورلين من اللصوص، أو الكلاب المجنونة، أو السقوط من على الحصان. وبدأ النقاش يأخذ طابعًا حادًا ، عندما انفجرت أبواب المكان فجأة. نظر جيك نحو الباب وقال: “لقد تأخرت، يا ‘كارتر’ (Carter). أخبر هذا الأحمق عن الفرق بين الشيطان والكلب. الجميع يعلم…” ثم توقف فجأة في منتصف الجملة، وركض نحو الباب قائلاً: “يا إلهي، ما الذي حدث لك؟” دخل كارتر إلى الضوء، وكان وجهه شاحبًا وملطخًا بالدم. كان يمسك ببطانية قديمة حول صدره، وكانت على شكل غريب كما لو كانت ملفوفة حول كتلة من الأعواد. قفز أصدقاؤه عن مقاعدهم وتوجهوا نحوه فور رؤيته. قال كارتر وهو يمشي ببطء إلى داخل الغرفة: “أنا بخير.” كانت عيناه تدوران بوحشية حول الحواف، كما لو كان حصانًا خائفًا. “أنا بخير، أنا بخير.” أسقط البطانية المربوطة على أقرب طاولة، حيث ارتطمت بالأخشاب بشدة، كما لو كانت مليئة بالحجارة. كانت ملابسه مشققة بخطوط طويلة ومستقيمة. وكان قميصه الرمادي متهالكًا في معظم الأماكن، باستثناء تلك الأجزاء التي كانت ملتصقة بجسده، وقد تلطخ بلون أحمر داكن كئيب. حاول غراهام أن يُجلسه على الكرسي. «يا إلهي… اجلس يا كارتر. ماذا جرى لك؟ اجلس.» هزّ كارتر رأسه بإصرار. «قلت لك، أنا بخير. لم أُصب بأذى شديد.» سأله غراهام: «كم كان عددهم؟» أجاب كارتر: «واحد فقط. ولكن الأمر ليس كما تعتقد…» «تبًّا لك! قلتُ لك يا كارتر!» صرخ العجوز كوب، بانفعال امتزج فيه الغضب بالخوف، ذلك النوع من الغضب الذي لا يصدر إلا من قريب أو صديق قريب. «قلت لك مرارًا، منذ أشهر… لا ينبغي لك أن تخرج بمفردك، حتى إلى بايدن (Baedn)، لم يعد الأمر آمنًا.» مدّ جيك يده ووضعها على ذراع العجوز ليهدّئه. قال غراهام، وما زال يحاول أن يوجّه كارتر إلى الكرسي: «اجلس فحسب، دعنا ننزع هذا القميص وننظّفك.» هزّ كارتر رأسه مرة أخرى. «أنا بخير. لقد أُصبت بجروح طفيفة، لكن معظم الدم ليس دمي… إنه دم ‘نيلِّي’ (Nelly). قفز عليها و هاجمها، قتلَها على بُعد ميلين من البلدة، بعد جسر أولدستون (Oldstone).» ساد صمت ثقيل إثر هذا النبأ. وضع تلميذ الحداد يده على كتف كارتر مواسيًا. قال بصوت خافت: «يا للأسى… هذا مؤلم. لقد كانت وديعة كالحَمَل. لم تكن تعضّ أو تركل حين كنا نُحضرها لوضع حدوة الحصان. كانت أفضل فرس في البلدة. يا للأسف… لا أدري ماذا أقول.» راح ينظر حوله حائرًا. أفلح كوب أخيرًا في الإفلات من جيك، وقال مكرّرًا وهو يهزّ إصبعه في وجه كارتر: «لقد أنذرتك! ثمة أناس هذه الأيام قد يقتلونك لقاء بضع قطع نقدية، فكيف إذا كان بحوزتك فرسٌ وعربة؟ وماذا ستفعل الآن؟ تجرّها بنفسك؟» ساد صمت غير مريح. تبادل جيك وكوب نظرات متوترة، بينما عجز الآخرون عن إيجاد كلمات تواسي صديقهم. أما صاحب الحانة، فقد تحرّك في السكون بحذر. كان يحمل أغراضًا بين ذراعيه، فتجاوز شيب بخفة، وبدأ يرتبها على الطاولة القريبة: وعاء ماء ساخن، مقصّ، قماش نظيف، قوارير زجاجية، إبرة وخيط. تمتم كوب، وكأنه يحدّث نفسه: «كل هذا ما كان ليقع لو أنه أصغى إليّ منذ البداية.» حاول جيك أن يسكته، لكن كوب دفعه جانبًا. «أقول الحقيقة لا غير. ما جرى لنيلّي أمر مؤسف، لا شك. ولكن إن لم يصغِ الآن، فسينتهي به الأمر قتيلاً هو الآخر. لا يحالفك الحظ مرّتين مع مثل أولئك الرجال.» شدّ كارتر شفتيه حتى صارتا خطًّا رفيعًا، ثم مدّ يده وسحب طرف البطانية الملطّخة بالدم. الشيء الذي بداخلها انقلب مرة واحدة، ثم علق بالقماش. جذبه كارتر بقوة أشد، فانبعث صوت كخَشخشة حجارة ناعمة تفرغ من كيس فوق سطح الطاولة. كان عنكبوتًا، بحجم عجلة عربة، شديد السواد كلون حجر الأردواز. قفز تلميذ الحداد إلى الخلف واصطدم بطاولة، فكاد أن يسقط أرضًا. تجمّدت ملامح كوب. أما غراهام وشيب وجيك، فقد صدرت عنهم أصوات مرتجفة، وتراجعوا رافعين أيديهم نحو وجوههم. حتى كارتر نفسه، ارتدّ خطوة إلى الوراء، كأنما بفعل رجفة عصبية. وامتد الصمت في المكان كعرقٍ بارد. قطّب صاحب الحانة حاجبيه وقال بصوت خفيض: «لا يمكن أن يكونوا قد بلغوا هذا الحد من اتجاه الغرب بعد…» ولولا السكون المخيّم، لما سمعه أحد. لكنهم سمعوه. وانتقلت أنظارهم من الشيء المرمي على الطاولة إلى صاحب الشعر الأحمر، يحدّقون فيه بصمت. كان جيك أول من استطاع أن يتكلم: «أأنت تعرف ما هذا؟» كان صاحب الحانة شارد الذهن. «سكرايل (Scrael) »، قال بتشتت. «كنت أظن أن الجبال…» «سكرايل؟» قاطع جيك. «بحق الجحيم، كوت. هل رأيت هذه الأشياء من قبل؟» «ماذا؟» نظر صاحب الحانة ذو الشعر الأحمر إلى الأعلى بسرعة، كما لو كان يتذكر فجأة مكانه و من يكون هنا. «أوه ،لا. لا، بالطبع لا.» ومع رؤيته أنه كان الشخص الوحيد الذي يقترب من الشيء المظلم على الطاولة، تراجع خطوة محسوبة إلى الوراء. «إنه مجرد شيء سمعته.» حدّقوا فيه. «هل تذكرون التاجر الذي مرّ من هنا منذ حوالي أسبوعين؟» أومأ الجميع برؤوسهم. «ذلك الوغد حاول أن يفرض عليّ عشرة قروش مقابل نصف رطل من الملح»، قال كوب تلقائيًا، مكررًا الشكوى ربما للمرة المئة. «كنت أتمنى لو اشتريت بعضًا»، تمتم جيك. أومأ غراهام موافقًا بصمت. «كان رجلاً قذرًا»، بصق كوب، وكأن الكلمات المألوفة توفر له بعض الراحة. «ربما أُدفع له اثنين في وقت ضيق و أزمة ، لكن عشرة هذه سرقة!» «ليس إذا كان هناك المزيد من هؤلاء على جوانب الطريق»، قال شيب بشكل قاتم. توجهت الأنظار جميعًا إلى الشيء على الطاولة. قال كوت سريعًا، وهو يراقب وجوه الجميع بينما كانوا يدرسون الشيء على الطاولة: «قال لي إنه سمع عنها بالقرب من ميلكومب (Melcombe). ظننت أنه كان يحاول رفع الأسعار فقط.» «ماذا قال أيضًا؟» سأل كارتر. فكر صاحب الحانة للحظة ثم أومأ كتفيه: «لم أحصل على القصة كاملة. كان في البلدة لبضع ساعات فقط.» «أنا لا أحب العناكب»، قال تلميذ الحداد. بقي على الجانب الآخر من الطاولة على بعد حوالي خمسة عشر قدمًا. «غطِّه بسرعة.» «ليس عنكبوتًا»، قال جيك. «ليس له عيون، ألا ترى ذلك» قال كارتر: «ليس له فم أيضًا»، مشيرًا : «كيف يأكل؟» «وماذا يأكل أصلا ؟» قال شيب بشكل قاتم. استمر صاحب الحانة في النظر إلى الشيء بفضول. اقترب منه، ممدًا يده. ابتعد الجميع أكثر عن الطاولة. قال كارتر: «احترس، قدماه حادة مثل السكاكين.» قال كوت: « إنها أكثر شبهاً بالموسات (شفرات الحلاقة).» مرر أصابعه الطويلة على جسم السكرايل الأسود، الخالي من الملامح. «إنه ناعم وصلب، مثل الفخار.» قال مساعد الحداد: «لا تعبث بها.» بحذر، أخذ صاحب الحانة أحد الأرجل الطويلة والناعمة وحاول كسرها بيديه كما لو كانت عصا. «ليس فخارًا»، قال مُعدلًا. وضعه على حافة الطاولة، ومال بجسده عليه. انكسرت الأرجل بصوت حاد. «إنه أشبه بالحجر.» نظر إلى كارتر. «كيف حصل على كل هذه الشقوق؟» أشار إلى الشقوق الدقيقة التي شوّهت السطح الأسود الأملس للجسم. قال كارتر: «نيلِّي سقطت عليه. قفز من شجرة وبدأ يتسلق عليها، جريحًا إياها بأقدامه. كان يتحرك بسرعة. لم أكن أعرف ما الذي يحدث.» جلس أخيرًا في الكرسي بناءً على إصرار غراهام مكملا : «تعثر و تشابك في الحزام وسقطَت عليه، فكسرت بعض أرجل هذا الشيء. ثم جاء نحوي، وصعد عليّ، يزحف على جسدي.» عبر ذراعيه أمام صدره الملطخ بالدماء وارتجف. «تمكنت من دفعه عني وركلته بكل قوتي. ثم عاد عليّ مرة أخرى…» توقف عن الكلام، وظهره شاحبًا. أومأ صاحب الحانة برأسه وهو يواصل العبث بالشيء. «لا يوجد دم. لا أعضاء. داخله رمادي فقط.» وخزه بإصبعه «إنه مثل الفطر.» «يا إلهي، اتركه بحال سبيله»، طلب تلميذ الحداد. «أحيانًا تتحرك العناكب حتى بعد أن تقتلها.» قال كوب بشكل ساخر: «استمعوا إلى أنفسكم. العناكب لا تكبر بهذا الحجم مثل الخنازير. أنتم تعرفون ما هذا.» نظر حوله، متواصلًا مع كل واحد منهم بنظرة. «إنه… شيطان.»
ساد صمت طويل مليء بالتفكير. بعد لحظة بدأ باست في التململ. “هل من أخبار؟”
هز كوت رأسه. “لم يتمكنوا من الوصول إلى الأخبار هذه الليلة. كارتر أفسد الأمور بينما كانوا لا يزالون يروون القصص. شيء ما، على ما أعتقد. سيعودون غدًا. سيكون لدي شيء أفعله.”
غرز كوت ملعقته بلا هدف في الحساء. “كان يجب أن أشتري السكرايل من كارتر” تمتم. “كان يمكنه أن يستخدم المال لشراء حصان جديد. كان الناس سيأتون من كل مكان لرؤيته و زيارة نُزُلي. كان بإمكاننا أن نملك بعض العمل على الأقل.”
نظر إليه باست بنظرة صامتة، مذهولة. قام كوت بحركة تهدئة بيده التي كانت تحمل الملعقة. “أنا أمزح، باست.” ابتسم ابتسامة ضعيفة. “لكن، لن أنكر أن هذا كان سيكون أمرًا جيدًا.”
“لا يا ريشي، بالتأكيد لم يكن سيكون أمرًا جيدًا.” قال باست بحزم: “لكان الناس سيأتون من كل مكان و حدب لرؤيته.” كرر ساخرًا: “فعلاً.”
“العمل كان سيكون أمرًا جيدًا” أوضح كوت. “الانشغال كان سيكون أمرًا جيدًا.” غرز ملعقته في الحساء مجددًا. “أي شيء كان سيكون جيدًا.”
جلسا في صمت طويل. كان كوت عابسًا، ينظر إلى وعاء الحساء في يديه، وعينيه بعيدة. “يجب أن يكون الأمر مروعًا لك هنا، باست.” قال أخيرًا، “يجب أن تكون مشلولًا من الملل.”
أراح باست كتفيه. “هناك بعض الزوجات الشابات في البلدة. وبعض البنات.” ابتسم كطفل. “أصنع متعتي بنفسي.”
“هذا جيد، باست.” كان هناك صمت آخر. تناول كوت ملعقة أخرى، مضغ، وابتلع. “كانوا يظنون أنه شيطان، كما تعلم.”
أراح باست كتفيه. “قد يكون كذلك، ريشي. ربما من الأفضل لهم أن يظنوا ذلك.”
“أعرف. في الواقع، شجعتهم على ذلك. لكنك تعرف ما يعنيه ذلك.” التقى عيني باست. “الحداد سيقوم بأعمال تجارية مزدهرة في الأيام القليلة القادمة.” * قصده هنا الحداد الذي سيصنع الأسلحة في الأزمة *
تغير تعبير وجه باست إلى حالة من الجمود المتحفظ. “أوه.”
أومأ كوت برأسه. “لن ألومك إذا أردت أن ترحل، باست. لديك أماكن أفضل لتكون فيها من هذا.”
تجمد تعبير وجه باست للحظة. “لا أستطيع المغادرة، ريشي.” فتح فمه وأغلقه عدة مرات، غير قادر على إيجاد كلمات ليتحدث بها. “من سيوجّهني و يعلمني إذا غادرت؟”
ابتسم كوت، وفي لحظة، أظهر وجهه مدى شبابه الحقيقي. خلف الخطوط المرهقة وتعبير صاحب النزل الهادئ، بدا أصغر سنًا من رفيقه ذو الشعر الداكن. “من سيوجّهك؟” أشار إلى الباب بملعقته. “اذهب لتقرأ إذاً، أو أزعج ابنة أحدهم. أنا متأكد أنك لديك أشياء أفضل لتفعلها من أن تشاهدني وأنا آكل.”
“في الواقع…”
“ابتعد أيها الشيطان!” قال كوت، متحولًا إلى لغة التيميك (Temic) بلكنة ثقيلة وهو يمضغ قضمة من الحساء. “تِهُس أنتَوسا إهَا (Tehus antausa eha) !” انفجر باست ضاحكًا بصدمة وأشار بإيماءة فاحشة بأحد يديه.
ابتلع كوت وتغيرت لغته. “أَرُوي تِه دِنّا-ليان (Aroi te denna-leyan)!”
“يا إلهي، كفاك!” وبخ باست، زال ابتسامته تمامًا. “هذا فقط مهين.”
“بالأرض والحجر، أُنكرك!” غمس كوت أصابعه في الكوب بجانبه ورش قطرات بشكل عارض في اتجاه باست. “الظلال تُطرد!”
“بالسيدر (cider قد يكون عصير التفاح أو خمره) ؟” تمكن باست من إظهار مزيج من المرح والانزعاج في آن واحد وهو يمسح قطرة سائلة من مقدمة قميصه. “آمل ألا يترك ذلك بقعًا.”
Temic* هي إحدى اللغات المصطنعة التي ابتكرها المؤلف، وهي ليست لغة حقيقية، بل لغة خيالية ضمن عالم الرواية، سنعرف استخدامها مستقبلا و ماذا تكون.
قال كوب بحدة: “أأنت من يروي هذه القصة، يا جيكوب ووكر( الاسم الكامل Jacob Walker)؟” “لأنه إن كنت أنت، فسأتركك تكملها بنفسك.” تبادل الرجلان النظرات بحدة لوقت طويل. وفي النهاية، نظر جيك بعيدًا، هامسًا بشيء قد يكون اعتذارًا. عاد كوب ليتحدث إلى الصبي: “هذه هي معضلة التشاندريان،” قال موضحًا: “من أين جاءوا؟ وأين يذهبون بعد أن ينجزون أفعالهم الدموية؟ هل هم بشر باعوا أرواحهم؟ شياطين؟ أرواح؟ لا أحد يعلم.” ثم ألقى كوب نظرة ازدراء شديدة نحو جيك. “ومع ذلك، كل جاهل يدعي أنه يعلم…” تواصل السرد بعد ذلك في جدال حول طبيعة التشاندريان، والعلامات التي تشير إلى وجودهم، وما إذا كانت القلادة ستحمي تابورلين من اللصوص، أو الكلاب المجنونة، أو السقوط من على الحصان. وبدأ النقاش يأخذ طابعًا حادًا ، عندما انفجرت أبواب المكان فجأة. نظر جيك نحو الباب وقال: “لقد تأخرت، يا ‘كارتر’ (Carter). أخبر هذا الأحمق عن الفرق بين الشيطان والكلب. الجميع يعلم…” ثم توقف فجأة في منتصف الجملة، وركض نحو الباب قائلاً: “يا إلهي، ما الذي حدث لك؟” دخل كارتر إلى الضوء، وكان وجهه شاحبًا وملطخًا بالدم. كان يمسك ببطانية قديمة حول صدره، وكانت على شكل غريب كما لو كانت ملفوفة حول كتلة من الأعواد. قفز أصدقاؤه عن مقاعدهم وتوجهوا نحوه فور رؤيته. قال كارتر وهو يمشي ببطء إلى داخل الغرفة: “أنا بخير.” كانت عيناه تدوران بوحشية حول الحواف، كما لو كان حصانًا خائفًا. “أنا بخير، أنا بخير.” أسقط البطانية المربوطة على أقرب طاولة، حيث ارتطمت بالأخشاب بشدة، كما لو كانت مليئة بالحجارة. كانت ملابسه مشققة بخطوط طويلة ومستقيمة. وكان قميصه الرمادي متهالكًا في معظم الأماكن، باستثناء تلك الأجزاء التي كانت ملتصقة بجسده، وقد تلطخ بلون أحمر داكن كئيب. حاول غراهام أن يُجلسه على الكرسي. «يا إلهي… اجلس يا كارتر. ماذا جرى لك؟ اجلس.» هزّ كارتر رأسه بإصرار. «قلت لك، أنا بخير. لم أُصب بأذى شديد.» سأله غراهام: «كم كان عددهم؟» أجاب كارتر: «واحد فقط. ولكن الأمر ليس كما تعتقد…» «تبًّا لك! قلتُ لك يا كارتر!» صرخ العجوز كوب، بانفعال امتزج فيه الغضب بالخوف، ذلك النوع من الغضب الذي لا يصدر إلا من قريب أو صديق قريب. «قلت لك مرارًا، منذ أشهر… لا ينبغي لك أن تخرج بمفردك، حتى إلى بايدن (Baedn)، لم يعد الأمر آمنًا.» مدّ جيك يده ووضعها على ذراع العجوز ليهدّئه. قال غراهام، وما زال يحاول أن يوجّه كارتر إلى الكرسي: «اجلس فحسب، دعنا ننزع هذا القميص وننظّفك.» هزّ كارتر رأسه مرة أخرى. «أنا بخير. لقد أُصبت بجروح طفيفة، لكن معظم الدم ليس دمي… إنه دم ‘نيلِّي’ (Nelly). قفز عليها و هاجمها، قتلَها على بُعد ميلين من البلدة، بعد جسر أولدستون (Oldstone).» ساد صمت ثقيل إثر هذا النبأ. وضع تلميذ الحداد يده على كتف كارتر مواسيًا. قال بصوت خافت: «يا للأسى… هذا مؤلم. لقد كانت وديعة كالحَمَل. لم تكن تعضّ أو تركل حين كنا نُحضرها لوضع حدوة الحصان. كانت أفضل فرس في البلدة. يا للأسف… لا أدري ماذا أقول.» راح ينظر حوله حائرًا. أفلح كوب أخيرًا في الإفلات من جيك، وقال مكرّرًا وهو يهزّ إصبعه في وجه كارتر: «لقد أنذرتك! ثمة أناس هذه الأيام قد يقتلونك لقاء بضع قطع نقدية، فكيف إذا كان بحوزتك فرسٌ وعربة؟ وماذا ستفعل الآن؟ تجرّها بنفسك؟» ساد صمت غير مريح. تبادل جيك وكوب نظرات متوترة، بينما عجز الآخرون عن إيجاد كلمات تواسي صديقهم. أما صاحب الحانة، فقد تحرّك في السكون بحذر. كان يحمل أغراضًا بين ذراعيه، فتجاوز شيب بخفة، وبدأ يرتبها على الطاولة القريبة: وعاء ماء ساخن، مقصّ، قماش نظيف، قوارير زجاجية، إبرة وخيط. تمتم كوب، وكأنه يحدّث نفسه: «كل هذا ما كان ليقع لو أنه أصغى إليّ منذ البداية.» حاول جيك أن يسكته، لكن كوب دفعه جانبًا. «أقول الحقيقة لا غير. ما جرى لنيلّي أمر مؤسف، لا شك. ولكن إن لم يصغِ الآن، فسينتهي به الأمر قتيلاً هو الآخر. لا يحالفك الحظ مرّتين مع مثل أولئك الرجال.» شدّ كارتر شفتيه حتى صارتا خطًّا رفيعًا، ثم مدّ يده وسحب طرف البطانية الملطّخة بالدم. الشيء الذي بداخلها انقلب مرة واحدة، ثم علق بالقماش. جذبه كارتر بقوة أشد، فانبعث صوت كخَشخشة حجارة ناعمة تفرغ من كيس فوق سطح الطاولة. كان عنكبوتًا، بحجم عجلة عربة، شديد السواد كلون حجر الأردواز. قفز تلميذ الحداد إلى الخلف واصطدم بطاولة، فكاد أن يسقط أرضًا. تجمّدت ملامح كوب. أما غراهام وشيب وجيك، فقد صدرت عنهم أصوات مرتجفة، وتراجعوا رافعين أيديهم نحو وجوههم. حتى كارتر نفسه، ارتدّ خطوة إلى الوراء، كأنما بفعل رجفة عصبية. وامتد الصمت في المكان كعرقٍ بارد. قطّب صاحب الحانة حاجبيه وقال بصوت خفيض: «لا يمكن أن يكونوا قد بلغوا هذا الحد من اتجاه الغرب بعد…» ولولا السكون المخيّم، لما سمعه أحد. لكنهم سمعوه. وانتقلت أنظارهم من الشيء المرمي على الطاولة إلى صاحب الشعر الأحمر، يحدّقون فيه بصمت. كان جيك أول من استطاع أن يتكلم: «أأنت تعرف ما هذا؟» كان صاحب الحانة شارد الذهن. «سكرايل (Scrael) »، قال بتشتت. «كنت أظن أن الجبال…» «سكرايل؟» قاطع جيك. «بحق الجحيم، كوت. هل رأيت هذه الأشياء من قبل؟» «ماذا؟» نظر صاحب الحانة ذو الشعر الأحمر إلى الأعلى بسرعة، كما لو كان يتذكر فجأة مكانه و من يكون هنا. «أوه ،لا. لا، بالطبع لا.» ومع رؤيته أنه كان الشخص الوحيد الذي يقترب من الشيء المظلم على الطاولة، تراجع خطوة محسوبة إلى الوراء. «إنه مجرد شيء سمعته.» حدّقوا فيه. «هل تذكرون التاجر الذي مرّ من هنا منذ حوالي أسبوعين؟» أومأ الجميع برؤوسهم. «ذلك الوغد حاول أن يفرض عليّ عشرة قروش مقابل نصف رطل من الملح»، قال كوب تلقائيًا، مكررًا الشكوى ربما للمرة المئة. «كنت أتمنى لو اشتريت بعضًا»، تمتم جيك. أومأ غراهام موافقًا بصمت. «كان رجلاً قذرًا»، بصق كوب، وكأن الكلمات المألوفة توفر له بعض الراحة. «ربما أُدفع له اثنين في وقت ضيق و أزمة ، لكن عشرة هذه سرقة!» «ليس إذا كان هناك المزيد من هؤلاء على جوانب الطريق»، قال شيب بشكل قاتم. توجهت الأنظار جميعًا إلى الشيء على الطاولة. قال كوت سريعًا، وهو يراقب وجوه الجميع بينما كانوا يدرسون الشيء على الطاولة: «قال لي إنه سمع عنها بالقرب من ميلكومب (Melcombe). ظننت أنه كان يحاول رفع الأسعار فقط.» «ماذا قال أيضًا؟» سأل كارتر. فكر صاحب الحانة للحظة ثم أومأ كتفيه: «لم أحصل على القصة كاملة. كان في البلدة لبضع ساعات فقط.» «أنا لا أحب العناكب»، قال تلميذ الحداد. بقي على الجانب الآخر من الطاولة على بعد حوالي خمسة عشر قدمًا. «غطِّه بسرعة.» «ليس عنكبوتًا»، قال جيك. «ليس له عيون، ألا ترى ذلك» قال كارتر: «ليس له فم أيضًا»، مشيرًا : «كيف يأكل؟» «وماذا يأكل أصلا ؟» قال شيب بشكل قاتم. استمر صاحب الحانة في النظر إلى الشيء بفضول. اقترب منه، ممدًا يده. ابتعد الجميع أكثر عن الطاولة. قال كارتر: «احترس، قدماه حادة مثل السكاكين.» قال كوت: « إنها أكثر شبهاً بالموسات (شفرات الحلاقة).» مرر أصابعه الطويلة على جسم السكرايل الأسود، الخالي من الملامح. «إنه ناعم وصلب، مثل الفخار.» قال مساعد الحداد: «لا تعبث بها.» بحذر، أخذ صاحب الحانة أحد الأرجل الطويلة والناعمة وحاول كسرها بيديه كما لو كانت عصا. «ليس فخارًا»، قال مُعدلًا. وضعه على حافة الطاولة، ومال بجسده عليه. انكسرت الأرجل بصوت حاد. «إنه أشبه بالحجر.» نظر إلى كارتر. «كيف حصل على كل هذه الشقوق؟» أشار إلى الشقوق الدقيقة التي شوّهت السطح الأسود الأملس للجسم. قال كارتر: «نيلِّي سقطت عليه. قفز من شجرة وبدأ يتسلق عليها، جريحًا إياها بأقدامه. كان يتحرك بسرعة. لم أكن أعرف ما الذي يحدث.» جلس أخيرًا في الكرسي بناءً على إصرار غراهام مكملا : «تعثر و تشابك في الحزام وسقطَت عليه، فكسرت بعض أرجل هذا الشيء. ثم جاء نحوي، وصعد عليّ، يزحف على جسدي.» عبر ذراعيه أمام صدره الملطخ بالدماء وارتجف. «تمكنت من دفعه عني وركلته بكل قوتي. ثم عاد عليّ مرة أخرى…» توقف عن الكلام، وظهره شاحبًا. أومأ صاحب الحانة برأسه وهو يواصل العبث بالشيء. «لا يوجد دم. لا أعضاء. داخله رمادي فقط.» وخزه بإصبعه «إنه مثل الفطر.» «يا إلهي، اتركه بحال سبيله»، طلب تلميذ الحداد. «أحيانًا تتحرك العناكب حتى بعد أن تقتلها.» قال كوب بشكل ساخر: «استمعوا إلى أنفسكم. العناكب لا تكبر بهذا الحجم مثل الخنازير. أنتم تعرفون ما هذا.» نظر حوله، متواصلًا مع كل واحد منهم بنظرة. «إنه… شيطان.»
• “Tehus antausa eha!” : قد تعني ربما “تبًّا لك، أيها الشيطان!” (هنا قيلت بطريقة فكاهية و ساخرة أثناء طرده باست من الغرفة، مستخدمًا لغة Temic وكأنه يطرد شيطانًا بطقس مسرحي.)
ساد صمت طويل مليء بالتفكير. بعد لحظة بدأ باست في التململ. “هل من أخبار؟” هز كوت رأسه. “لم يتمكنوا من الوصول إلى الأخبار هذه الليلة. كارتر أفسد الأمور بينما كانوا لا يزالون يروون القصص. شيء ما، على ما أعتقد. سيعودون غدًا. سيكون لدي شيء أفعله.” غرز كوت ملعقته بلا هدف في الحساء. “كان يجب أن أشتري السكرايل من كارتر” تمتم. “كان يمكنه أن يستخدم المال لشراء حصان جديد. كان الناس سيأتون من كل مكان لرؤيته و زيارة نُزُلي. كان بإمكاننا أن نملك بعض العمل على الأقل.” نظر إليه باست بنظرة صامتة، مذهولة. قام كوت بحركة تهدئة بيده التي كانت تحمل الملعقة. “أنا أمزح، باست.” ابتسم ابتسامة ضعيفة. “لكن، لن أنكر أن هذا كان سيكون أمرًا جيدًا.” “لا يا ريشي، بالتأكيد لم يكن سيكون أمرًا جيدًا.” قال باست بحزم: “لكان الناس سيأتون من كل مكان و حدب لرؤيته.” كرر ساخرًا: “فعلاً.” “العمل كان سيكون أمرًا جيدًا” أوضح كوت. “الانشغال كان سيكون أمرًا جيدًا.” غرز ملعقته في الحساء مجددًا. “أي شيء كان سيكون جيدًا.” جلسا في صمت طويل. كان كوت عابسًا، ينظر إلى وعاء الحساء في يديه، وعينيه بعيدة. “يجب أن يكون الأمر مروعًا لك هنا، باست.” قال أخيرًا، “يجب أن تكون مشلولًا من الملل.” أراح باست كتفيه. “هناك بعض الزوجات الشابات في البلدة. وبعض البنات.” ابتسم كطفل. “أصنع متعتي بنفسي.” “هذا جيد، باست.” كان هناك صمت آخر. تناول كوت ملعقة أخرى، مضغ، وابتلع. “كانوا يظنون أنه شيطان، كما تعلم.” أراح باست كتفيه. “قد يكون كذلك، ريشي. ربما من الأفضل لهم أن يظنوا ذلك.” “أعرف. في الواقع، شجعتهم على ذلك. لكنك تعرف ما يعنيه ذلك.” التقى عيني باست. “الحداد سيقوم بأعمال تجارية مزدهرة في الأيام القليلة القادمة.” * قصده هنا الحداد الذي سيصنع الأسلحة في الأزمة * تغير تعبير وجه باست إلى حالة من الجمود المتحفظ. “أوه.” أومأ كوت برأسه. “لن ألومك إذا أردت أن ترحل، باست. لديك أماكن أفضل لتكون فيها من هذا.” تجمد تعبير وجه باست للحظة. “لا أستطيع المغادرة، ريشي.” فتح فمه وأغلقه عدة مرات، غير قادر على إيجاد كلمات ليتحدث بها. “من سيوجّهني و يعلمني إذا غادرت؟” ابتسم كوت، وفي لحظة، أظهر وجهه مدى شبابه الحقيقي. خلف الخطوط المرهقة وتعبير صاحب النزل الهادئ، بدا أصغر سنًا من رفيقه ذو الشعر الداكن. “من سيوجّهك؟” أشار إلى الباب بملعقته. “اذهب لتقرأ إذاً، أو أزعج ابنة أحدهم. أنا متأكد أنك لديك أشياء أفضل لتفعلها من أن تشاهدني وأنا آكل.” “في الواقع…” “ابتعد أيها الشيطان!” قال كوت، متحولًا إلى لغة التيميك (Temic) بلكنة ثقيلة وهو يمضغ قضمة من الحساء. “تِهُس أنتَوسا إهَا (Tehus antausa eha) !” انفجر باست ضاحكًا بصدمة وأشار بإيماءة فاحشة بأحد يديه. ابتلع كوت وتغيرت لغته. “أَرُوي تِه دِنّا-ليان (Aroi te denna-leyan)!” “يا إلهي، كفاك!” وبخ باست، زال ابتسامته تمامًا. “هذا فقط مهين.” “بالأرض والحجر، أُنكرك!” غمس كوت أصابعه في الكوب بجانبه ورش قطرات بشكل عارض في اتجاه باست. “الظلال تُطرد!” “بالسيدر (cider قد يكون عصير التفاح أو خمره) ؟” تمكن باست من إظهار مزيج من المرح والانزعاج في آن واحد وهو يمسح قطرة سائلة من مقدمة قميصه. “آمل ألا يترك ذلك بقعًا.” Temic* هي إحدى اللغات المصطنعة التي ابتكرها المؤلف، وهي ليست لغة حقيقية، بل لغة خيالية ضمن عالم الرواية، سنعرف استخدامها مستقبلا و ماذا تكون.
• “Aroi te denna-leyan!” :هذه العبارة أقل وضوحًا، لكن من رد فعل باست (“هذا مهين”)، يمكننا استنتاج أنها كانت شتيمة قوية. الكاتب وحده من يعلم.*
*إقرأ* رواياتنا* فقط* على* مو*قع م*لوك الرو*ايات ko*lno*vel ko*lno*vel. com *تعليق من المترجم التافه: الأسماء سأميزها أحيانا كي تعرفوهم مع الاسم الأصلي باللغة الانجليزية أو أيا كان أصلهم ، و أيضا كمعلومة الكاتب يأخذ مصطلحات من كل اللغات القريبة للإنجليزية لذا أحيانا نطقها يختلف عما ترونه ، ترجمتي للأسماء ستكون بنطقهم و لن أقوم بتعريبهم*
أخذ كوت قضمة أخرى من عشاءه. “اذهب وانقعه. إذا أصبحت الأمور يائسة، أوصي بأن تستعين بالصيَغ العديدة من المذيبات الموجودة في ‘سيلوم تينتور’، الفصل الثالث عشر، على ما أعتقد.”
“حسنًا.” نهض باست وسار نحو الباب بخطواته الغريبة المتعمدة. “نادِ إذا احتجت شيئًا.” أغلق الباب وراءه.
أكل كوت ببطء، وهو يمسح آخر الحساء بقطعة من الخبز. نظر إلى الخارج من النافذة بينما كان يأكل، أو حاول ذلك، إذْ جعل ضوء المصباح سطح الزجاج يلمع كما المرآة مقابل الظلام خلفه.
تجولت عيونه في الغرفة بلا هدف. كان الموقد مصنوعًا من نفس الصخر الأسود الموجود في الأسفل. كان يقع في وسط الغرفة، وما زال إنجازًا هندسيًا صغيرًا كان كوت فخورًا به. كان السرير صغيرًا، لا يعدو كونه سريرًا بسيطًا، وإذا لمسته لوجدت المرتبة بالكاد موجودة.
قد يلاحظ المراقب الماهر أن هناك شيئًا كان نظره يتجنب النظر إليه. مثلما تتجنب النظر في عين حبيبة قديمة في عشاء رسمي، أو عين عدو قديم يجلس في الطرف الآخر من الغرفة، في حانة مزدحمة في وقت متأخر من الليل.
حاول كوت الاسترخاء، لكنه فشل، وتحرك في مكانه، ثم تنهد، وغيّر وضعيته، ومن دون أن يشعر كانت عيونه قد وقعت على الصندوق في طرف السرير.
كان مصنوعًا من خشب الرواه (roah)، خشب نادر وثقيل، داكن كالفحم وناعم كالزجاج المصقول. كان محبوبًا من قبل صانعي العطور والكيميائيين، وكان قطعة بحجم الإبهام تساوي بسهولة ثمن وزنه من الذهب. صُنْع صندوق من هذا الخشب يتجاوز الإسراف بكثير. كان الصندوق مختومًا (مقفلا) ثلاث مرات. كان له قفل من الحديد، وقفل من النحاس، وقفل لا يمكن رؤيته. ملأ الخشب الغرفة برائحة شبه غير ملحوظة من الحمضيات وحديد مُخمّد تم إخراجه من الفرن.
عندما سقطت عيون كوت على الصندوق لم تبتعد بسرعة. لم تتحرك خلسة إلى الجنب كما لو كان سيدعي و يتظاهر أنه غير موجود تمامًا. لكن في لحظة من النظر، استعاد وجهه كل الخطوط التي كانت قد محتها بهجة اليوم البسيطة. تم محو الراحة التي وجدها في مسح زجاجاته وكتبه في ثانية، تاركة خلف عينيه فراغًا وألمًا. وفي لحظة، كان التوق الشديد والندم يتصارعان عبر وجهه الهادئ.
ثم اختفت تلك الملامح، وحل مكانها وجه صاحب النزل المتعب، الرجل الذي يدعى كوت. تنهد مرة أخرى دون أن يشعر ودفع نفسه ليقف.
استغرق وقتًا طويلًا قبل أن يمشي بجانب الصندوق إلى السرير. وعندما وصل إلى السرير، استغرق وقتًا طويلًا قبل أن ينام.
كما كان كوت قد خمن، عادوا إلى “وايستون” في الليلة التالية لتناول العشاء والمشروبات. كانت هناك بعض المحاولات الضعيفة لسرد القصص، لكنها انقطعت بسرعة. لم يكن أحد في مزاج مناسب لذلك.
لذا كان لا يزال في وقت مبكر من المساء عندما تحولت المناقشة إلى مسائل أكثر أهمية. تَم تداول الشائعات التي وصلت إلى البلدة، وكان معظمها مقلقًا. كان الملك التائب يواجه صعوبة مع المتمردين في ريزاڤيك (Resavek). تسبب هذا في بعض القلق، لكن فقط بشكل عام. كانت ريزافيك بعيدة جدًا، وحتى كوب، الأكثر دراية بالعالم، كان سيجد صعوبة في العثور عليها على الخريطة.
ناقشوا الحرب بطرقهم الخاصة. توقع كوب فرض ضريبة ثالثة بعد جني المحاصيل و موسم الحصاد. لم يعترض أحد، رغم أنه لم يكن هناك عام شهد “ثلاث حالات نزيف” (الضرائب) في ذاكرتهم الحية.
خمّن جيك أن الحصاد سيكون جيدًا بما يكفي حتى لا تكسر الضريبة الثالثة معظم العائلات. باستثناء البينتليز (the Bentleys) الذين كانوا في أوضاع صعبة على أي حال. والأوريسون (the Orissons)الذين كانت خرافهم تختفي باستمرار. و مارتن المجنون (Crazy Martin) الذي زرع شعيرًا هذا العام. كل مزارع ذو عقل -نصفه حتى- كان قد زرع الفاصوليا. كانت هذه ميزة واحدة في وسط كل هذه الحروب – الجنود يأكلون الفاصوليا كثيرا، والأسعار ستكون مرتفعة.
تحدث صاحب الحانة لأول مرة تلك الليلة: “في الواقع، أنتم تفوتون أكثر من نصفها”، قال وهو يقف في الباب خلف البار. “دين الحرفي يُسدد دائمًا:
بعد بعض المشروبات الأخرى، تم التعبير عن هموم و مشاكل أعمق. كان الجنود الهاربون وغيرهم من الطامعين الانتهازيين يملؤون الطرق، مما جعل الرحلات القصيرة حتى محفوفة بالمخاطر. كانت الطرق دائمًا سيئة بالطبع، كما أن الشتاء دائمًا بارد.
كنت تشتكي، وتتناول (تتخذ) الاحتياطات الحكيمة، ثم تتابع حياتك كالعادة.
لكن هذا كان مختلفًا. على مدى الشهرين الماضيين، أصبحت الطرق سيئة للغاية لدرجة أن الناس توقفوا عن الشكوى. كانت القافلة الأخيرة تحتوي على عربة واحدة وأربعة حراس. كان التاجر يطلب عشرة بنسات لنصف رطل من الملح، خمسة عشر مقابل رغيف من السكر. لم يكن لديه فلفل أو قرفة أو شوكولاتة. كان لديه كيس صغير من القهوة، لكنه كان يطلب مقابل ذلك تالنتين فضيتين (talents). في البداية، سخر الناس من أسعاره. ثم، عندما تمسك بها، بصقوا عليه ولعنوه.
كان ذلك قبل فترة : اثنين وعشرين يومًا بالتحديد. لم يظهر تاجر جاد آخر منذ ذلك الحين، على الرغم من أن هذا هو الموسم المناسب لذلك. لذا، وعلى الرغم من الضريبة الثالثة التي تلوح في الأفق في أذهان الجميع، كان الناس يفتشون في حقائبهم ويتمنون لو أنهم اشتروا شيئًا صغيرًا، فقط في حال جاء ثلج الشتاء مبكرًا.
لم يتحدث أحد عن الليلة السابقة، عن الشيء الذي تم حرقه ودفنه. بالطبع، كان هناك من يتحدث. كانت البلدة حية بالهمسات و’القيل والقال’. كانت جروح كارتر تضمن أن تؤخذ القصص على محمل الجد أو نصف الجدية، لكن ليس أكثر من ذلك. كان يتم التحدث عن كلمة “شيطان”، لكن بابتسامات نصف مخفية خلف أيدٍ مرفوعة.
*المقصود أنهم يقولون كلمة “شيطان” بنوع من التهكم أو الدعابة المبطّنة بالخوف الطفيف، لكن ليس بجديًة. تعرفون مزاح الكبار التافه*
كان ستة من الأصدقاء فقط هم من رأوا ذلك الشيء قبل أن يتم حرقه. كان أحدهم مصابًا والجميع كانوا في حالة سُكر وقتها. كان الكاهن قد رآه أيضًا، لكنه كان عمله أن يرى الشياطين. الشياطين مفيدة لعمله.
كان صاحب النزل قد رآه أيضًا، على ما يبدو. لكنه لم يكن من هنا. لم يكن يعرف الحقيقة التي كانت واضحة للجميع الذين وُلدوا ونشأوا في هذه البلدة الصغيرة: تُروى القصص هنا، لكنها كانت تحدث في أماكن أخرى. لم يكن هذا مكانًا للشياطين. *
أخذ كوت قضمة أخرى من عشاءه. “اذهب وانقعه. إذا أصبحت الأمور يائسة، أوصي بأن تستعين بالصيَغ العديدة من المذيبات الموجودة في ‘سيلوم تينتور’، الفصل الثالث عشر، على ما أعتقد.” “حسنًا.” نهض باست وسار نحو الباب بخطواته الغريبة المتعمدة. “نادِ إذا احتجت شيئًا.” أغلق الباب وراءه. أكل كوت ببطء، وهو يمسح آخر الحساء بقطعة من الخبز. نظر إلى الخارج من النافذة بينما كان يأكل، أو حاول ذلك، إذْ جعل ضوء المصباح سطح الزجاج يلمع كما المرآة مقابل الظلام خلفه. تجولت عيونه في الغرفة بلا هدف. كان الموقد مصنوعًا من نفس الصخر الأسود الموجود في الأسفل. كان يقع في وسط الغرفة، وما زال إنجازًا هندسيًا صغيرًا كان كوت فخورًا به. كان السرير صغيرًا، لا يعدو كونه سريرًا بسيطًا، وإذا لمسته لوجدت المرتبة بالكاد موجودة. قد يلاحظ المراقب الماهر أن هناك شيئًا كان نظره يتجنب النظر إليه. مثلما تتجنب النظر في عين حبيبة قديمة في عشاء رسمي، أو عين عدو قديم يجلس في الطرف الآخر من الغرفة، في حانة مزدحمة في وقت متأخر من الليل. حاول كوت الاسترخاء، لكنه فشل، وتحرك في مكانه، ثم تنهد، وغيّر وضعيته، ومن دون أن يشعر كانت عيونه قد وقعت على الصندوق في طرف السرير. كان مصنوعًا من خشب الرواه (roah)، خشب نادر وثقيل، داكن كالفحم وناعم كالزجاج المصقول. كان محبوبًا من قبل صانعي العطور والكيميائيين، وكان قطعة بحجم الإبهام تساوي بسهولة ثمن وزنه من الذهب. صُنْع صندوق من هذا الخشب يتجاوز الإسراف بكثير. كان الصندوق مختومًا (مقفلا) ثلاث مرات. كان له قفل من الحديد، وقفل من النحاس، وقفل لا يمكن رؤيته. ملأ الخشب الغرفة برائحة شبه غير ملحوظة من الحمضيات وحديد مُخمّد تم إخراجه من الفرن. عندما سقطت عيون كوت على الصندوق لم تبتعد بسرعة. لم تتحرك خلسة إلى الجنب كما لو كان سيدعي و يتظاهر أنه غير موجود تمامًا. لكن في لحظة من النظر، استعاد وجهه كل الخطوط التي كانت قد محتها بهجة اليوم البسيطة. تم محو الراحة التي وجدها في مسح زجاجاته وكتبه في ثانية، تاركة خلف عينيه فراغًا وألمًا. وفي لحظة، كان التوق الشديد والندم يتصارعان عبر وجهه الهادئ. ثم اختفت تلك الملامح، وحل مكانها وجه صاحب النزل المتعب، الرجل الذي يدعى كوت. تنهد مرة أخرى دون أن يشعر ودفع نفسه ليقف. استغرق وقتًا طويلًا قبل أن يمشي بجانب الصندوق إلى السرير. وعندما وصل إلى السرير، استغرق وقتًا طويلًا قبل أن ينام. كما كان كوت قد خمن، عادوا إلى “وايستون” في الليلة التالية لتناول العشاء والمشروبات. كانت هناك بعض المحاولات الضعيفة لسرد القصص، لكنها انقطعت بسرعة. لم يكن أحد في مزاج مناسب لذلك. لذا كان لا يزال في وقت مبكر من المساء عندما تحولت المناقشة إلى مسائل أكثر أهمية. تَم تداول الشائعات التي وصلت إلى البلدة، وكان معظمها مقلقًا. كان الملك التائب يواجه صعوبة مع المتمردين في ريزاڤيك (Resavek). تسبب هذا في بعض القلق، لكن فقط بشكل عام. كانت ريزافيك بعيدة جدًا، وحتى كوب، الأكثر دراية بالعالم، كان سيجد صعوبة في العثور عليها على الخريطة. ناقشوا الحرب بطرقهم الخاصة. توقع كوب فرض ضريبة ثالثة بعد جني المحاصيل و موسم الحصاد. لم يعترض أحد، رغم أنه لم يكن هناك عام شهد “ثلاث حالات نزيف” (الضرائب) في ذاكرتهم الحية. خمّن جيك أن الحصاد سيكون جيدًا بما يكفي حتى لا تكسر الضريبة الثالثة معظم العائلات. باستثناء البينتليز (the Bentleys) الذين كانوا في أوضاع صعبة على أي حال. والأوريسون (the Orissons)الذين كانت خرافهم تختفي باستمرار. و مارتن المجنون (Crazy Martin) الذي زرع شعيرًا هذا العام. كل مزارع ذو عقل -نصفه حتى- كان قد زرع الفاصوليا. كانت هذه ميزة واحدة في وسط كل هذه الحروب – الجنود يأكلون الفاصوليا كثيرا، والأسعار ستكون مرتفعة.
علاوة على ذلك، كانت الأمور سيئة بما فيه الكفاية دون أن نزيد الأمور تعقيدًا. كان كوب والبقية يعلمون أنه لا فائدة من التحدث عن ذلك. محاولة إقناع الناس لن تؤدي إلا إلى جعلهم مادة للسخرية، مثل مارتن المجنون الذي كان يحاول حفر بئر داخل منزله منذ سنوات.
ومع ذلك، اشترى كل واحد منهم قطعة من الحديد البارد المُشكّل في الورشة، ثقيلة كما يمكنهم حملها بسهولة، ولم يقل أي منهم ما كان يفكر فيه. بدلًا من ذلك، اشتكوا من أن الطرق سيئة وتزداد سوءًا. تحدثوا عن التجار، والهاربين، والضرائب، ونقص الملح الذي سيجعلهم يواجهون صعوبة في فصل الشتاء. وتذكروا أنه قبل ثلاث سنوات، لم يكن أحد ليخطر بباله حتى قفل أبواب منزله في الليل، ناهيك عن إغلاقها بالكامل.
اتخذت المحادثة مَنحى هابطًا من هناك، وعلى الرغم من أن أيًا منهم لم يقل ما كان يفكر فيه، انتهى المساء بنغمة قاتمة. كانت معظم الأمسيات تنتهي هكذا في هذه الأيام، في هذه الأوقات الصعبة.
*إقرأ* رواياتنا* فقط* على* مو*قع م*لوك الرو*ايات ko*lno*vel ko*lno*vel. com نادى على نفسه “كوت”. اختار هذا الاسم بعناية عندما جاء إلى هذا المكان. و في كل مكان ذهب إليه اختار اسمًا جديدًا لأسباب عديدة، بعضها عادي وبعضها غير عادي، ولعل أبرزها هو أن الأسماء كانت مهمة بالنسبة له. نظر إلى الأعلى، فشاهد النجوم تتلألأ في عمق السَماء الداكنة بدون قمر. كان يعرفهم جميعًا، قصصهم وأسمائهم. كان يعرفهم كما يعرف يديه. نزل ببصره، ثم تنهد كوتي دون أن يشعر بذلك، وعاد إلى الداخل. أغلق الباب وأغلق النوافذ العريضة للحانة، وكأنه يحاول أن يبتعد عن النجوم وأسمائهم المتنوعة. بدأ يكنس الأرض بعناية، وهو يلتقط كل الزوايا. غسَل الطاولات والبار، كان يعمل بكفاءة صبورة. بعد ساعة من العمل، كانت المياه في دلوه ما تزال نظيفة بما يكفي لامرأة لتغسل يديها فيها. وأخيرًا، سحب كرسيًا وراء البار وبدأ في تلميع مجموعة الزجاجات التي كانت بين البرميلين الكبيرين. لم يكن دقيقًا ومنظمًا كما في الأعمال الأخرى، وسرعان ما أصبح واضحًا أن التلميع كان مجرد عادة وعذر للمسها وإمساكها. همس قليلًا، لكنه لم يدرك ذلك، وكان سيتوقف لو عرف. وأثناء تدوير الزجاجات بين يديه الطويلتين والأنيقتين، كان الحركة المألوفة تخفف بعض الخطوط المتعبة من وجهه، مما جعله يبدو أصغر، بلا شك، ليس في الثلاثين بعد. ليس قريبًا من الثلاثين. بدا شابا بالنسبة لصاحب حانة، شابا بالنسبة لرجل بهذا القدر من الخطوط المتعبة على وجهه.
*الناس في هذه البلدة الصغيرة معتادون على سماع الحكايات الغريبة، لكنهم لا يظنون أنها قد تصبح واقعًا و حقيقة في بلدتهم. فحين يحدث شيء غير طبيعي، قد يشعر الغريب عن البلدة بأنه أمر ممكن، بينما أهل البلدة يرفضون تصديق ذلك، لأنهم يعتبرون بلدتهم محصّنة ضد هذه الشرور…هممم من هنا استمد الفصل اسمه، أحيانا قد يأتي ما كنت تظن خلافَه ليطرق باب منزلك.*
كانت هناك خطوات في الردهة، ودخل شاب الغرفة وهو يحمل وعاء من الحساء البخاري الذي رائحته مليئة بالفلفل. كان شابًا داكنًا وجذابًا، مبتسمًا بسرعة، وعيناه مليئتان بالدهاء. «لم تكن متأخرًا بهذا الشكل منذ أسابيع»، قال وهو يمد الوعاء. «لا بد أن هناك قصصًا جيدة الليلة، ريشي.» “ريشي” (Reshi) هو اسم آخر لصاحب الحانة، شبهُ لقب تقريبا. سحب الصوت زاوية فمه ليبتسم ابتسامة ساخرة بينما جلس في الكرسي العميق أمام المدفأة. «إذن، ماذا تعلمت اليوم، باست (Bast)؟» «اليوم، يا معلمي، تعلمت لماذا يتمتع العشاق العظماء ببصر أفضل من العلماء العظماء.» «ولماذا ذلك؟» سأل كوت، مع لمسة من المرح في صوته. أغلق باست الباب وعاد ليجلس في الكرسي الثاني، محولًا إياه ليتوجه نحو معلمه والمدفأة. تحرك برقة غريبة وكأنما يرقص. «حسنًا، ريشي، جميع الكتب الثمينة تكون في الأماكن ذات الإضاءة السيئة. لكن الفتيات الجميلات عادة ما يكن في ضوء الشمس وبالتالي يكون من السهل دراستهن بدون خطر على العين.» أومأ كوت: «لكن الطالب الذكي الاستثنائي يستطيع أن يأخذ كتابًا إلى الخارج، وبالتالي يطور نفسه دون أن يخشى إلحاق الضرر بحاسة البصر المحبوبة.» «فكرت في نفس الشيء، ريشي. كوني، بالطبع، طالبًا ذكيًا استثنائيًا.» «بالطبع.» قال كوت. «لكن عندما وجدت مكانًا في الشمس يمكنني فيه القراءة، جاءت فتاة جميلة وأعاقتني عن فعل أي شيء من هذا القبيل »، أنهى باست بحركة مبالغ فيها.
*تعليق من المترجم التافه: الأسماء سأميزها أحيانا كي تعرفوهم مع الاسم الأصلي باللغة الانجليزية أو أيا كان أصلهم ، و أيضا كمعلومة الكاتب يأخذ مصطلحات من كل اللغات القريبة للإنجليزية لذا أحيانا نطقها يختلف عما ترونه ، ترجمتي للأسماء ستكون بنطقهم و لن أقوم بتعريبهم*
• “Tehus antausa eha!” : قد تعني ربما “تبًّا لك، أيها الشيطان!” (هنا قيلت بطريقة فكاهية و ساخرة أثناء طرده باست من الغرفة، مستخدمًا لغة Temic وكأنه يطرد شيطانًا بطقس مسرحي.)
*إقرأ* رواياتنا* فقط* على* مو*قع م*لوك الرو*ايات ko*lno*vel ko*lno*vel. com كتوضيح : قد يرى كوت أن هؤلاء الناس يفعلون الأمور “الصحيحة” — يجتمعون، يتأكدون، يخبرون السلطات، يتكلّمون عن كشف الحديد والنار للشياطين …لكنّهم لا يدركون لماذا يفعلون ذلك، وليس لديهم النية أو العمق أو الفهم الكافي، بل مجردخوف وتكرار لما سمعوه(السببالخاطئ هنا).مثل أغلبنا في الواقع الذين نعرفطريقة الحساب بالعلاقات و القواعد في العلوم لكننا نجهلأصلها و السبب فياستعمالنا لها…*
---
ترجمة موقع ملوك الروايات. لا تُلهِكُم القراءة عن اداء الصلوات فى أوقاتها و لا تنسوا نصيبكم من القرآن
أشترك الان من هنا. ولامزيد من الاعلانات