الفصل الرابع: اسمي يوريتش
▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬
اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لاَ أَعْلَمُ
ترجمة: ســاد
▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬
بوو!
بدا يوريتش يمضغ بشراسة الطعام المجفف الغريب الذي وجده بين مؤن فريق البعثة، وهو يشدّ عباءة أحد المستكشفين حول كتفيه. كانت جروح السهام تُثير الحكة والألم في آنٍ واحد، لكنه حاول ألا يُوليها اهتمامًا كبيرًا. وثق بقوته الشابة.
نزل يوريتش من جبال السماء في مسار بدا وكأنه لا نهاية له نحو القاع. تعثر وتعثر أحيانًا، بل كاد يسقط من جرف، مما كاد أن يقتله.
أظهرت له الجبال صعوبة نجاة أي دخيل. المعاملة القاسية والباردة التي تلقاها يوريتش من الجبال جعلته يدرك أن وجوده غير مرغوب فيه. أرادت جبال السماء قتله.
بوو.
“كاغ!”
أحس يوريتش بوجودٍ اثناء نومه. فاستل سيفه بسرعة وطعن ذئبًا اقترب منه كثيرًا لدرجة أنه كاد أن يُودي بحياته.
“أعتقد أنني سأتناول ذئبًا على الفطور ” قال يوريتش وهو يضحك ساخرًا من عيون الذئاب التي حدقت به في الظلام. استطاع يوريتش أن يرى التوهج الخافت في عيونهم من انعكاس ضوء القمر.
“هناك خمسة منهم ” حسب يوريتش في ذهنه بينما يمد جسده المتيبس من البرد ويدير رأسه يمينًا ويسارًا.
بوو! بوو!
دفأت عضلاته الباردة بسرعة. بدا يوريتش مستعدًا لمعركة أخرى.
“هَف.” خلّف زفير يوريتش الخفيف أثرًا من البخار الأبيض الذي سرعان ما تبدد في هواء الصباح البارد. كان قد نزل مسافةً كبيرة، فخفّ شعوره بدوار المرتفعات الذي كان يُزعجه. بدا أن الذئاب أدركت أن يوريتش ليس فريسة، فعادوا إلى الغابة.
“ذكيٌّ جدًا بالنسبة لحيوان ” همس يوريتش وهو يشاهد الذئاب تختفي في الغسق. لم تكن الشمس لتشرق قريبًا، لكن يوريتش قرر استئناف هبوطه.
’العالم وراء الجبال!’ لمعت عينا يوريتش فضولاً ودهشةً، ورأى نفسه يبتسم للإمكانيات الجديدة. ’سأراه بأم عينيّ.’
أصبح لدى يوريتش الآن مؤن فريق البعثة. تخلى عن حقيبته الجلدية البالية وارتدى ملابس المستكشفين.
“دروعهم المعدنية أقوى من دروعنا، وملابسهم ناعمة ودافئة في نفس الوقت.”
بدا يوريتش مفتونًا بكل شيء جديد يكتشفه في المؤن. كان يتجه بعيدًا عن منزله دون أن يُخبر إخوته أنه لا يزال على قيد الحياة وبصحة جيدة. كاد قلبه أن ينفجر من فرط مشاعره.
“لا بد أن هذه الأرض الجديدة تستحق كل هذا العناء!”
مع إشراقة الشمس على قمم الجبال المغطاة بالثلوج، تمكن يوريتش أخيرًا من رؤية ما كان يحلم به منذ زمن طويل: الجانب الآخر من جبال السماء.
“يا أرضًا غريبة، وصلتُ أخيرًا!” أطلق يوريتش زئيرًا قويًا، زئيرًا كان كافيًا لإبعاد طيور الجبال عن أشجارها. شعر بموجة جديدة من الطاقة المنعشة في جسده المنهك.
“هاه… هاها!” ضحك يوريتش من شدة النشوة بينما كان يركض بسرعة طوال الطريق إلى أسفل الجبال حتى وصل إلى السهول دون أن يتوقف ولو مرة واحدة.
“عرفتُ أن تلك العجوز المُسنّة لا تعرف ما تقصده! هذا ليس عالم الأرواح. إنها أرض واحدة! مع أناس مثلنا! ” هتف يوريتش وهو يلتقط حفنة من العشب من الأرض ويشم رائحة التراب المألوفة. العشب، التراب، كل ما رآه وشعر به في وطنه.
“ه …
“أنا قادم، هنا قادم! يوريتش قادم!”
بحث يوريتش عن نهر. يعلم أنه للعثور على قرية، لا بد من وجود مجرى نهر. القرى تُبنى دائمًا على ضفاف المسطح المائي المنحدر من الجبال، إذ لا يوجد إنسان واحد في هذا العالم يستطيع العيش بدون ماء.
* * *
في مكان ما على مشارف مدينة ليست بعيدة عن جبال السماء، كان هناك ثلاثة أعضاء من عصابة كبيرة يطاردون محتالًا.
” اللعنة! ارجع إلى هنا أيها المحتال الحقير!”
” هاف، هاف.”
كان المحتال رجلاً نحيفًا ذا مظهر هش. كان يكسب رزقه من الرهانات المزورة، وللأسف، اليوم ينجو بحياته بعد أن ألقي القبض عليه متلبسًا من قبل هؤلاء الرجال الثلاثة.
“أوه، هيو.”
كان المحتال يلهث بشدة. لم يكن في حالة جيدة على الإطلاق.
“إذا أمسكوا بي، سيقتلونني. حتى لو لم يقتلوني، سأتعرض للضرب المبرح.”
بدا يركض هربًا من الموت. ثم، صدمته صخرة صغيرة، بالكاد تكفي لتُشكّل عائقًا، فسقط أرضًا. ربما كان ذلك جزاءً.
بوو!
أصبح المحتال مغطى بسحابة من الغبار بينما يتدحرج عاجزًا على الأرض.
“هههه، يا ابن العاهرة الحقير، انظر إلى نفسك الآن! هيا، أحضر الخنجر. سنعتني بأصابعه الصغيرة القذرة أولًا، أيها الوغد الماكر ” صرّح أحد أفراد العصابة وهو يمسك المحتال من ياقته.
توسل المحتال المرعوب بشدة طالبًا الرحمة. ” يا سيدي، أرجوك سامحني هذه المرة فقط، أتوسل إليك! لن أحاول خداعك مرة أخرى. سأفعل ما تشاء، أرجوك لا تقتلني!”
“سيدي؟ لا أريد سماع كل هذا الهراء من شخص حقير مثلك.” ضحك عضو العصابة وهو يمسك بالخنجر الذي قُدِّم له.
“لا يا سيدي، من فضلك، ليس بيدي! آه!” كافح المحتال بشراسة في محاولة يائسة للهرب من قبضة الرجل الذي كان أضخم وأقوى منه بكثير، لكن دون جدوى. أمسكه الرجال من كتفيه.
بوو!
بينما كان الرجال الأربعة منشغلين بإحداث ضجة، اقترب منهم رجل آخر.
” أوه! أرجوك ساعدني! سأعطيك أي شيء تريده! ” نادى المحتال على الرجل الغامض بيأس.
ثم صفع أحد الرجال الرجل العاجز على وجهه. “يا إلهي، فقط اصمت قبل أن أقطع لسانك أولاً.”
ألقى أفراد العصابة نظرة على الرجل الغامض. كان يرتدي ملابس متسخة، وفي حزامه سيف فقط. من مظهره، بدا وكأنه مسافر.
هذا المسافر يُدعى يوريتش. هؤلاء الرجال الأربعة أول من قابلهم منذ نزوله من الجبال. راقب الرجال أمامه بفضول.
“ما الذي تنظر إليه بحق الجحيم؟ انصرف ” قال أحد الرجال ليوريتش، ولكن كما حدث مع رجال فوردجال، لم يفهم يوريتش لغتهم.
مجموعة منهم تلاحق ذلك الرجل. ماذا يفعلون؟ أراد يوريتش معرفة ما يحدث، لكن لم تكن هناك طريقة للتواصل مع هؤلاء الرجال. كل ما كان بإمكانه فعله هو المشاهدة ورؤية ما سيفعلونه.
“أعلم أنكم لا تفهمونني، لكن تابعوا. أريد فقط أن أرى ما تفعلونه ” قال يوريتش للرجال وهو يطوي ذراعيه. صُدم الرجال من صوت لغة أجنبية.
“هل هو… أجنبي؟ لا أظن أنني سمعت هذه اللغة من قبل ” قال أحدهم للآخرين.
“ربما يكون من سكان الريف الجنوبيين.” ضحك أفراد العصابة فيما بينهم وهم يطردون يوريتش بعيدًا، لكن يوريتش لم يكن ينوي التحرك قيد أنملة. كان مصممًا على معرفة ما سيحدث بعد ذلك.
يا رجل، ألا ترى ما نفعله هنا؟ ماذا، هل تريد أن تموت معه؟ انصرف، هذا من أجل مصلحتك! تنهد أحد الرجال وهو يتجه نحو يوريتش. حرك يده ليمسك بالخنجر الذي بحجم ساعده محاولًا ترهيبه. لكن ما إن وضع يده على الخنجر، حتى لمع شيء أمام عينيه، حتى قبل أن يرمش.
كان دوناو يخطط بالفعل لطريقة للاستفادة من الوضع الحالي، ثم توصل إلى إدراك أمر ما. ’لا يبدو أنه يعرف طريقه حول العالم، على الرغم من أنه مسافر!’ قرر دوناو اصطحابه إلى حانة محلية يرتادها المسافرون بشكل متكرر. “مرحبًا، هل يتحدث أي شخص هنا أي لغة يتحدث بها هذا الرجل؟” الأجانب يشكلون نسبة كبيرة من المسافرين. تجول دوناو في الحانة مستخدمًا نقوده محاولًا العثور على أجنبي ليعمل مترجمًا لهم. “آه، أنا من الجانب الآخر من الجبال ” همس يوريتش وهو يراقب دوناو وهو يركض في الحانة المزدحمة. لم يكن ينوي الكشف عن أصله، فليس بإمكان أحد فهمه على أي حال. “يبدو أنهم غير مؤذين إلى حد ما الآن، ولكن هذا قد يتغير عندما يكتشفون من أين أنا – من الممكن أن يكونوا مثل هؤلاء الرجال الذين هاجموني أنا وإخوتي.” بدا يوريتش يتصرف بحذر شديد. لم يكن يعرف شيئًا عن هذا المكان الجديد الذي وجد نفسه فيه. “لم أسمع هذه اللغة من قبل. لا يُمكن أن يكون هذا الرجل الأوريكي من الجنوب!” “لا بد أنه من مكان بعيد جدًا، ربما قرية صغيرة في ضواحي المدينة. أم أنه من الشمال؟” لم يتمكن رجال الحانة من تحديد مكان إقامة يوريتش. ” الآن بعد أن ذكرتَ ذلك، يبدو أنه أقرب إلى الشماليين. حجمه بحجم برابرة الشمال. رجال الجنوب قصار القامة وضعفاء، كالفتيات الصغيرات!” ” ماذا قلتَ عنّا نحن الجنوبيين؟ هل تريد أن تُجرّب؟ هاه؟” “ههه! كنت أعرف أن مؤخرتك النحيلة من الجنوب، كيك.” “أوه، أيها الوغد!” سرعان ما فقد السكارى والأجانب اهتمامهم بيوريتش، واندلع قتال. أطلق دوناو تنهيدة متعبة وحوّل عينيه إلى يوريتش. “من أي مكانٍ أنت يا يوريتش؟ من الجنوب أم الشمال؟ بالتأكيد، لستَ من الجانب الآخر من جبال السماء.” بدا يوريتش منشغلاً بالنظر إلى المشروب أمامه. بدا المشروب صافياً بلمسة صفراء – إنه بيرة. المشروب الكحولي الوحيد الذي يعرفه يوريتش هو نبيذ الفاكهة. بدت البيرة مشروباً غريباً لشخص لم يسمع قط عن استخدام الحبوب في صنع الخمور. ’يبدو أن هذا مشروب كحولي بالتأكيد’. ألقى يوريتش نظرة سريعة على البار. لم تكن المزاحات والتفاعلات الحماسية، وحتى رائحة الكحول، بعيدة كل البعد عن لياليه مع رفاقه المحاربين في الوطن. “الحساب علي، يوريتش ” حرض دوناو يوريتش وهو ينقر بإصبعه على كوب البيرة الخاص به. “لا أستطيع رفض مشروب”، فكّر يوريتش وهو يتجرع المشروب الغريب مع سائر الحاضرين في البار. امتلأت فمه بمرارة البيرة غير العادية. أراد يوريتش أن يبصقه مجددًا، لكنه قرر كبت ارتشفه. تجشؤ. “واو، انظروا إلى هذا الرجل! يمكنك الشرب! ثم نطلب كأسًا آخر.” طلب دوناو كأسًا آخر. لم يكن أمام يوريتش خيار سوى قبول كأس البيرة الجديد. “ما هذا؟” نظر يوريتش حول البار مرة أخرى عندما لفت انتباهه شيء ما. كان الناس يتبادلون شيئًا ما، ظنّ أنه عملتهم. كانوا يستخدمون المال بدلًا من المقايضة كما يفعل رجال القبائل. لم يتخيل يوريتش شيئًا كهذا من قبل. كل شيء هنا مختلف تمامًا عن موطننا. نعيش في عالمين مختلفين تمامًا. نشوة. أي خوف شعر به يوريتش من هذا المكان الغريب غلب عليه الحماس. أراد أن يُري إخوته ما يكمن وراء جبال السماء. العالم ضخم. كم سأتمكن من رؤيته؟ حتى مرارة البيرة الصارخة بدأت تُشعرني بالانتعاش. أذواق جديدة، وعمارة جديدة، وأشخاص جدد. “ه … “يبدو أنك تحب البيرة، يوريتش!” ” طعمه كالقذارة، لا، ربما أقرب إلى البول! هذا هو طعم البول.” “هههه، أنقرة تُصنّع بالفعل أفضل بيرة في المنطقة. حسنًا، أخرى!” لم يكن محتوى محادثتهما مناسبًا إطلاقًا. مع ذلك، كانت محادثة. ظلت عينا يوريتش تلمعان بينما كان وجهه محمرًا من الكحول. حرص على تذكر ما يُطلق عليه هؤلاء الناس “المال” الذي كانوا يتبادلونه فيما بينهم. في موطنهم، كانت القبائل غالبًا ما تقايض باللحوم المجففة، وجلود الحيوانات، والماشية، والمعادن. ورغم أن الأمر كان تبادلًا للبضائع، إلا أن هذه السلع لها قيمة محددة لاستخدامها في التجارة، مثل “المال” هذا. ’أرى كيف هو الوضع’. فهم يوريتش ما يحتاجه. هو بحاجة إلى المال.
‘إيه؟’
ما حدث للتو بدا سريعًا جدًا لدرجة أن عقله لم يستطع استيعابه. فجأةً، انقلب كل شيء رأسًا على عقب بالنسبة لهذا العضو في العصابة، إذ انكسر عنقه كغصن. قفز الرجال الآخرون صارخين مما شاهدوه للتو.
“ما هذا الهراء؟ هذا المجنون كسر رقبة ماكس للتو!”
“امسكه! اقتل هذا الوغد!”
صرخ العضوان المتبقيان من العصابة عندما انقضوا على يوريتش.
لم يستطع يوريتش أن يفهم سبب كل هذه الضجة. لقد كسر رقبة شخص على وشك أن يشهر سلاحه عليه. الأمر أسهل من انتزاع الحلوى من طفل.
نظر يوريتش إلى الرجل الملقى على الأرض. كان يتشنج بسبب كسر في رقبته، فأكمل يوريتش المهمة داسًا على رأسه.
“أنتم من بدأ هذا الأمر!” هز يوريتش كتفيه بشكل عرضي وهو ينظر إلى الرجال الذين يهاجمونه.
ووش.
تحرك يوريتش كالبرق. وبينما كان يمرّ مسرعًا بجانب الرجلين الآخرين، سقطت جثتاهما على الأرض كالذبابتين.
‘ما هذا الرجل؟’
كان المحتال يرتجف رعبًا. هذا الرجل الغريب قتل لتوه ثلاثة رجال ضخام وكأنهم لا شيء.
بوو!
توجه يوريتش نحو المحتال الذي كان لا يزال يرتجف من الخوف. “خذني إلى قبيلتك ” قال يوريتش للرجل.
لم يفهم المحتال ما يطلبه يوريتش. تنهد يوريتش بتعب وجلس على الأرض.
بوو!
رسم يوريتش بعض المنازل والأشخاص على الأرض باستخدام عصا وأظهرها للمحتال.
” أوه، تقصد المدينة! بالطبع، يمكنني أن آخذك إلى هناك، اتبعني! ” صرخ المحتال وهو يهز رأسه بغضب.
“أنا بأمان. مازلت على قيد الحياة!”
بدا المحتال مرتبكًا، لكنه أصبح متأكدًا من أمر واحد: لولا هذا المسافر الغريب، لما كان على قيد الحياة.
“اسمي دوناو، سيدي، دوناو.” قال دوناو المحتال ليوريتش وهو يشير إلى نفسه. التقط يوريتش اسمه وكرره لنفسه.
“اسمي يوريتش. يوريتش.”
ألقى دوناو نظرة سريعة على يوريتش. “هل هو حقًا مسافر من الجنوب؟”
الجنوب يتألف من عدة مناطق تتحدث لغات مختلفة. افترض دوناو أن يوريتش لا بد أنه من إحدى تلك المناطق.
“أعلم أنك ربما لا تفهم ما أقول يا سيدي، لكن من الجيد أن تتعلم لغة هاميليان. ستُفيدك في أي شيء تقريبًا ” تمتم دوناو بنبرةٍ مُحبطةٍ بعض الشيء لأنه يعلم أن هذا الرجل لم يفهم كلمةً مما يقول.
“على أي حال، فهو قادر على كسر الرقاب كما لو كانت أغصانًا يابسة. ”سرت قشعريرة في جسده وهو يتذكر ما فعله يوريتش قبل لحظات. كان يبذل قصارى جهده لإخفاء توتره وهو يقود يوريتش إلى المدينة.
” آه!” ما كان أمام عيني يوريتش كان مدينةً وراء جبال السماء. ” لا بد أنها قبيلتك!” انبهر يوريتش بالمنظر. ولأول مرة في حياته، رأى مبانٍ تلو مبانٍ مصنوعة من الحجر الصلب، وليس من الطين كما في وطنه.
“لقد وصلنا إلى وجهتنا يا سيدي! هذه أنقرة.”
أنقرة أقرب مدينة إلى جبال السماء. ويعود ازدهارها إلى اكتشاف عروق النحاس قرب سفوح الجبال، مما جعلها تخصصها ومصدر صادراتها الرئيسي.
“حجم هذه القرية الهائل، يا له من منظر خلاب!” لم تهدأ عينا يوريتش لحظةً واحدةً من تأمل هذه المناظر غير العادية. لاحظ كيف أن أهل القرية لا يكترثون بالتعرف على الآخرين، وهو أمرٌ غريبٌ بالنسبة له، فالجميع يعرف بعضهم بعضًا ويحيي بعضهم بعضًا باسمه.
“حسنًا، وصلنا، لذا أعتقد أن مهمتي انتهت! اعتنِ بنفسك يا سيدي الكريم! آه!”
لقد باءت محاولته للابتعاد عن هذا الرجل القاتل بالفشل عندما أمسك يوريتش بكتفه بما بدا وكأنه قبضة غير قابلة للكسر.
“ليس بهذه السرعة ” قال يوريتش ببرود وهو يحدق في وجه دوناو. بدا يوريتش بارعًا في قراءة نوايا الآخرين من خلال تعابير وجوههم ولغة أجسادهم.
“إيك!” كانت نظرة يوريتش المصممة كافية لجعل دوناو يتراجع.
“اللعنة، لكنه أنقذ حياتي في وقت سابق… إنه قوي ويعرف كيف يقاتل، لذلك ربما إذا تمكنت من الوصول إلى جانبه الجيد…”
الفصل الرابع: اسمي يوريتش ▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لاَ أَعْلَمُ ترجمة: ســاد ▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬ بوو! بدا يوريتش يمضغ بشراسة الطعام المجفف الغريب الذي وجده بين مؤن فريق البعثة، وهو يشدّ عباءة أحد المستكشفين حول كتفيه. كانت جروح السهام تُثير الحكة والألم في آنٍ واحد، لكنه حاول ألا يُوليها اهتمامًا كبيرًا. وثق بقوته الشابة. نزل يوريتش من جبال السماء في مسار بدا وكأنه لا نهاية له نحو القاع. تعثر وتعثر أحيانًا، بل كاد يسقط من جرف، مما كاد أن يقتله. أظهرت له الجبال صعوبة نجاة أي دخيل. المعاملة القاسية والباردة التي تلقاها يوريتش من الجبال جعلته يدرك أن وجوده غير مرغوب فيه. أرادت جبال السماء قتله. بوو. “كاغ!” أحس يوريتش بوجودٍ اثناء نومه. فاستل سيفه بسرعة وطعن ذئبًا اقترب منه كثيرًا لدرجة أنه كاد أن يُودي بحياته. “أعتقد أنني سأتناول ذئبًا على الفطور ” قال يوريتش وهو يضحك ساخرًا من عيون الذئاب التي حدقت به في الظلام. استطاع يوريتش أن يرى التوهج الخافت في عيونهم من انعكاس ضوء القمر. “هناك خمسة منهم ” حسب يوريتش في ذهنه بينما يمد جسده المتيبس من البرد ويدير رأسه يمينًا ويسارًا. بوو! بوو! دفأت عضلاته الباردة بسرعة. بدا يوريتش مستعدًا لمعركة أخرى. “هَف.” خلّف زفير يوريتش الخفيف أثرًا من البخار الأبيض الذي سرعان ما تبدد في هواء الصباح البارد. كان قد نزل مسافةً كبيرة، فخفّ شعوره بدوار المرتفعات الذي كان يُزعجه. بدا أن الذئاب أدركت أن يوريتش ليس فريسة، فعادوا إلى الغابة. “ذكيٌّ جدًا بالنسبة لحيوان ” همس يوريتش وهو يشاهد الذئاب تختفي في الغسق. لم تكن الشمس لتشرق قريبًا، لكن يوريتش قرر استئناف هبوطه. ’العالم وراء الجبال!’ لمعت عينا يوريتش فضولاً ودهشةً، ورأى نفسه يبتسم للإمكانيات الجديدة. ’سأراه بأم عينيّ.’ أصبح لدى يوريتش الآن مؤن فريق البعثة. تخلى عن حقيبته الجلدية البالية وارتدى ملابس المستكشفين. “دروعهم المعدنية أقوى من دروعنا، وملابسهم ناعمة ودافئة في نفس الوقت.” بدا يوريتش مفتونًا بكل شيء جديد يكتشفه في المؤن. كان يتجه بعيدًا عن منزله دون أن يُخبر إخوته أنه لا يزال على قيد الحياة وبصحة جيدة. كاد قلبه أن ينفجر من فرط مشاعره. “لا بد أن هذه الأرض الجديدة تستحق كل هذا العناء!” مع إشراقة الشمس على قمم الجبال المغطاة بالثلوج، تمكن يوريتش أخيرًا من رؤية ما كان يحلم به منذ زمن طويل: الجانب الآخر من جبال السماء. “يا أرضًا غريبة، وصلتُ أخيرًا!” أطلق يوريتش زئيرًا قويًا، زئيرًا كان كافيًا لإبعاد طيور الجبال عن أشجارها. شعر بموجة جديدة من الطاقة المنعشة في جسده المنهك. “هاه… هاها!” ضحك يوريتش من شدة النشوة بينما كان يركض بسرعة طوال الطريق إلى أسفل الجبال حتى وصل إلى السهول دون أن يتوقف ولو مرة واحدة. “عرفتُ أن تلك العجوز المُسنّة لا تعرف ما تقصده! هذا ليس عالم الأرواح. إنها أرض واحدة! مع أناس مثلنا! ” هتف يوريتش وهو يلتقط حفنة من العشب من الأرض ويشم رائحة التراب المألوفة. العشب، التراب، كل ما رآه وشعر به في وطنه. “ه … “أنا قادم، هنا قادم! يوريتش قادم!” بحث يوريتش عن نهر. يعلم أنه للعثور على قرية، لا بد من وجود مجرى نهر. القرى تُبنى دائمًا على ضفاف المسطح المائي المنحدر من الجبال، إذ لا يوجد إنسان واحد في هذا العالم يستطيع العيش بدون ماء. * * * في مكان ما على مشارف مدينة ليست بعيدة عن جبال السماء، كان هناك ثلاثة أعضاء من عصابة كبيرة يطاردون محتالًا. ” اللعنة! ارجع إلى هنا أيها المحتال الحقير!” ” هاف، هاف.” كان المحتال رجلاً نحيفًا ذا مظهر هش. كان يكسب رزقه من الرهانات المزورة، وللأسف، اليوم ينجو بحياته بعد أن ألقي القبض عليه متلبسًا من قبل هؤلاء الرجال الثلاثة. “أوه، هيو.” كان المحتال يلهث بشدة. لم يكن في حالة جيدة على الإطلاق. “إذا أمسكوا بي، سيقتلونني. حتى لو لم يقتلوني، سأتعرض للضرب المبرح.” بدا يركض هربًا من الموت. ثم، صدمته صخرة صغيرة، بالكاد تكفي لتُشكّل عائقًا، فسقط أرضًا. ربما كان ذلك جزاءً. بوو! أصبح المحتال مغطى بسحابة من الغبار بينما يتدحرج عاجزًا على الأرض. “هههه، يا ابن العاهرة الحقير، انظر إلى نفسك الآن! هيا، أحضر الخنجر. سنعتني بأصابعه الصغيرة القذرة أولًا، أيها الوغد الماكر ” صرّح أحد أفراد العصابة وهو يمسك المحتال من ياقته. توسل المحتال المرعوب بشدة طالبًا الرحمة. ” يا سيدي، أرجوك سامحني هذه المرة فقط، أتوسل إليك! لن أحاول خداعك مرة أخرى. سأفعل ما تشاء، أرجوك لا تقتلني!” “سيدي؟ لا أريد سماع كل هذا الهراء من شخص حقير مثلك.” ضحك عضو العصابة وهو يمسك بالخنجر الذي قُدِّم له. “لا يا سيدي، من فضلك، ليس بيدي! آه!” كافح المحتال بشراسة في محاولة يائسة للهرب من قبضة الرجل الذي كان أضخم وأقوى منه بكثير، لكن دون جدوى. أمسكه الرجال من كتفيه. بوو! بينما كان الرجال الأربعة منشغلين بإحداث ضجة، اقترب منهم رجل آخر. ” أوه! أرجوك ساعدني! سأعطيك أي شيء تريده! ” نادى المحتال على الرجل الغامض بيأس. ثم صفع أحد الرجال الرجل العاجز على وجهه. “يا إلهي، فقط اصمت قبل أن أقطع لسانك أولاً.” ألقى أفراد العصابة نظرة على الرجل الغامض. كان يرتدي ملابس متسخة، وفي حزامه سيف فقط. من مظهره، بدا وكأنه مسافر. هذا المسافر يُدعى يوريتش. هؤلاء الرجال الأربعة أول من قابلهم منذ نزوله من الجبال. راقب الرجال أمامه بفضول. “ما الذي تنظر إليه بحق الجحيم؟ انصرف ” قال أحد الرجال ليوريتش، ولكن كما حدث مع رجال فوردجال، لم يفهم يوريتش لغتهم. مجموعة منهم تلاحق ذلك الرجل. ماذا يفعلون؟ أراد يوريتش معرفة ما يحدث، لكن لم تكن هناك طريقة للتواصل مع هؤلاء الرجال. كل ما كان بإمكانه فعله هو المشاهدة ورؤية ما سيفعلونه. “أعلم أنكم لا تفهمونني، لكن تابعوا. أريد فقط أن أرى ما تفعلونه ” قال يوريتش للرجال وهو يطوي ذراعيه. صُدم الرجال من صوت لغة أجنبية. “هل هو… أجنبي؟ لا أظن أنني سمعت هذه اللغة من قبل ” قال أحدهم للآخرين. “ربما يكون من سكان الريف الجنوبيين.” ضحك أفراد العصابة فيما بينهم وهم يطردون يوريتش بعيدًا، لكن يوريتش لم يكن ينوي التحرك قيد أنملة. كان مصممًا على معرفة ما سيحدث بعد ذلك. يا رجل، ألا ترى ما نفعله هنا؟ ماذا، هل تريد أن تموت معه؟ انصرف، هذا من أجل مصلحتك! تنهد أحد الرجال وهو يتجه نحو يوريتش. حرك يده ليمسك بالخنجر الذي بحجم ساعده محاولًا ترهيبه. لكن ما إن وضع يده على الخنجر، حتى لمع شيء أمام عينيه، حتى قبل أن يرمش.
كان دوناو يخطط بالفعل لطريقة للاستفادة من الوضع الحالي، ثم توصل إلى إدراك أمر ما.
’لا يبدو أنه يعرف طريقه حول العالم، على الرغم من أنه مسافر!’ قرر دوناو اصطحابه إلى حانة محلية يرتادها المسافرون بشكل متكرر.
“مرحبًا، هل يتحدث أي شخص هنا أي لغة يتحدث بها هذا الرجل؟”
الأجانب يشكلون نسبة كبيرة من المسافرين. تجول دوناو في الحانة مستخدمًا نقوده محاولًا العثور على أجنبي ليعمل مترجمًا لهم.
“آه، أنا من الجانب الآخر من الجبال ” همس يوريتش وهو يراقب دوناو وهو يركض في الحانة المزدحمة. لم يكن ينوي الكشف عن أصله، فليس بإمكان أحد فهمه على أي حال.
“يبدو أنهم غير مؤذين إلى حد ما الآن، ولكن هذا قد يتغير عندما يكتشفون من أين أنا – من الممكن أن يكونوا مثل هؤلاء الرجال الذين هاجموني أنا وإخوتي.”
بدا يوريتش يتصرف بحذر شديد. لم يكن يعرف شيئًا عن هذا المكان الجديد الذي وجد نفسه فيه.
“لم أسمع هذه اللغة من قبل. لا يُمكن أن يكون هذا الرجل الأوريكي من الجنوب!”
“لا بد أنه من مكان بعيد جدًا، ربما قرية صغيرة في ضواحي المدينة. أم أنه من الشمال؟” لم يتمكن رجال الحانة من تحديد مكان إقامة يوريتش.
” الآن بعد أن ذكرتَ ذلك، يبدو أنه أقرب إلى الشماليين. حجمه بحجم برابرة الشمال. رجال الجنوب قصار القامة وضعفاء، كالفتيات الصغيرات!”
” ماذا قلتَ عنّا نحن الجنوبيين؟ هل تريد أن تُجرّب؟ هاه؟”
“ههه! كنت أعرف أن مؤخرتك النحيلة من الجنوب، كيك.”
“أوه، أيها الوغد!”
سرعان ما فقد السكارى والأجانب اهتمامهم بيوريتش، واندلع قتال.
أطلق دوناو تنهيدة متعبة وحوّل عينيه إلى يوريتش.
“من أي مكانٍ أنت يا يوريتش؟ من الجنوب أم الشمال؟ بالتأكيد، لستَ من الجانب الآخر من جبال السماء.”
بدا يوريتش منشغلاً بالنظر إلى المشروب أمامه. بدا المشروب صافياً بلمسة صفراء – إنه بيرة. المشروب الكحولي الوحيد الذي يعرفه يوريتش هو نبيذ الفاكهة. بدت البيرة مشروباً غريباً لشخص لم يسمع قط عن استخدام الحبوب في صنع الخمور.
’يبدو أن هذا مشروب كحولي بالتأكيد’. ألقى يوريتش نظرة سريعة على البار. لم تكن المزاحات والتفاعلات الحماسية، وحتى رائحة الكحول، بعيدة كل البعد عن لياليه مع رفاقه المحاربين في الوطن.
“الحساب علي، يوريتش ” حرض دوناو يوريتش وهو ينقر بإصبعه على كوب البيرة الخاص به.
“لا أستطيع رفض مشروب”، فكّر يوريتش وهو يتجرع المشروب الغريب مع سائر الحاضرين في البار. امتلأت فمه بمرارة البيرة غير العادية. أراد يوريتش أن يبصقه مجددًا، لكنه قرر كبت ارتشفه.
تجشؤ.
“واو، انظروا إلى هذا الرجل! يمكنك الشرب! ثم نطلب كأسًا آخر.” طلب دوناو كأسًا آخر. لم يكن أمام يوريتش خيار سوى قبول كأس البيرة الجديد.
“ما هذا؟” نظر يوريتش حول البار مرة أخرى عندما لفت انتباهه شيء ما. كان الناس يتبادلون شيئًا ما، ظنّ أنه عملتهم. كانوا يستخدمون المال بدلًا من المقايضة كما يفعل رجال القبائل. لم يتخيل يوريتش شيئًا كهذا من قبل.
كل شيء هنا مختلف تمامًا عن موطننا. نعيش في عالمين مختلفين تمامًا. نشوة. أي خوف شعر به يوريتش من هذا المكان الغريب غلب عليه الحماس. أراد أن يُري إخوته ما يكمن وراء جبال السماء.
العالم ضخم. كم سأتمكن من رؤيته؟
حتى مرارة البيرة الصارخة بدأت تُشعرني بالانتعاش. أذواق جديدة، وعمارة جديدة، وأشخاص جدد.
“ه …
“يبدو أنك تحب البيرة، يوريتش!”
” طعمه كالقذارة، لا، ربما أقرب إلى البول! هذا هو طعم البول.”
“هههه، أنقرة تُصنّع بالفعل أفضل بيرة في المنطقة. حسنًا، أخرى!”
لم يكن محتوى محادثتهما مناسبًا إطلاقًا. مع ذلك، كانت محادثة.
ظلت عينا يوريتش تلمعان بينما كان وجهه محمرًا من الكحول. حرص على تذكر ما يُطلق عليه هؤلاء الناس “المال” الذي كانوا يتبادلونه فيما بينهم. في موطنهم، كانت القبائل غالبًا ما تقايض باللحوم المجففة، وجلود الحيوانات، والماشية، والمعادن. ورغم أن الأمر كان تبادلًا للبضائع، إلا أن هذه السلع لها قيمة محددة لاستخدامها في التجارة، مثل “المال” هذا.
’أرى كيف هو الوضع’. فهم يوريتش ما يحتاجه. هو بحاجة إلى المال.
*إقرأ* رواياتنا* فقط* على* مو*قع م*لوك الرو*ايات ko*lno*vel ko*lno*vel. com
‘إيه؟’ ما حدث للتو بدا سريعًا جدًا لدرجة أن عقله لم يستطع استيعابه. فجأةً، انقلب كل شيء رأسًا على عقب بالنسبة لهذا العضو في العصابة، إذ انكسر عنقه كغصن. قفز الرجال الآخرون صارخين مما شاهدوه للتو. “ما هذا الهراء؟ هذا المجنون كسر رقبة ماكس للتو!” “امسكه! اقتل هذا الوغد!” صرخ العضوان المتبقيان من العصابة عندما انقضوا على يوريتش. لم يستطع يوريتش أن يفهم سبب كل هذه الضجة. لقد كسر رقبة شخص على وشك أن يشهر سلاحه عليه. الأمر أسهل من انتزاع الحلوى من طفل. نظر يوريتش إلى الرجل الملقى على الأرض. كان يتشنج بسبب كسر في رقبته، فأكمل يوريتش المهمة داسًا على رأسه. “أنتم من بدأ هذا الأمر!” هز يوريتش كتفيه بشكل عرضي وهو ينظر إلى الرجال الذين يهاجمونه. ووش. تحرك يوريتش كالبرق. وبينما كان يمرّ مسرعًا بجانب الرجلين الآخرين، سقطت جثتاهما على الأرض كالذبابتين. ‘ما هذا الرجل؟’ كان المحتال يرتجف رعبًا. هذا الرجل الغريب قتل لتوه ثلاثة رجال ضخام وكأنهم لا شيء. بوو! توجه يوريتش نحو المحتال الذي كان لا يزال يرتجف من الخوف. “خذني إلى قبيلتك ” قال يوريتش للرجل. لم يفهم المحتال ما يطلبه يوريتش. تنهد يوريتش بتعب وجلس على الأرض. بوو! رسم يوريتش بعض المنازل والأشخاص على الأرض باستخدام عصا وأظهرها للمحتال. ” أوه، تقصد المدينة! بالطبع، يمكنني أن آخذك إلى هناك، اتبعني! ” صرخ المحتال وهو يهز رأسه بغضب. “أنا بأمان. مازلت على قيد الحياة!” بدا المحتال مرتبكًا، لكنه أصبح متأكدًا من أمر واحد: لولا هذا المسافر الغريب، لما كان على قيد الحياة. “اسمي دوناو، سيدي، دوناو.” قال دوناو المحتال ليوريتش وهو يشير إلى نفسه. التقط يوريتش اسمه وكرره لنفسه. “اسمي يوريتش. يوريتش.” ألقى دوناو نظرة سريعة على يوريتش. “هل هو حقًا مسافر من الجنوب؟” الجنوب يتألف من عدة مناطق تتحدث لغات مختلفة. افترض دوناو أن يوريتش لا بد أنه من إحدى تلك المناطق. “أعلم أنك ربما لا تفهم ما أقول يا سيدي، لكن من الجيد أن تتعلم لغة هاميليان. ستُفيدك في أي شيء تقريبًا ” تمتم دوناو بنبرةٍ مُحبطةٍ بعض الشيء لأنه يعلم أن هذا الرجل لم يفهم كلمةً مما يقول. “على أي حال، فهو قادر على كسر الرقاب كما لو كانت أغصانًا يابسة. ”سرت قشعريرة في جسده وهو يتذكر ما فعله يوريتش قبل لحظات. كان يبذل قصارى جهده لإخفاء توتره وهو يقود يوريتش إلى المدينة. ” آه!” ما كان أمام عيني يوريتش كان مدينةً وراء جبال السماء. ” لا بد أنها قبيلتك!” انبهر يوريتش بالمنظر. ولأول مرة في حياته، رأى مبانٍ تلو مبانٍ مصنوعة من الحجر الصلب، وليس من الطين كما في وطنه. “لقد وصلنا إلى وجهتنا يا سيدي! هذه أنقرة.” أنقرة أقرب مدينة إلى جبال السماء. ويعود ازدهارها إلى اكتشاف عروق النحاس قرب سفوح الجبال، مما جعلها تخصصها ومصدر صادراتها الرئيسي. “حجم هذه القرية الهائل، يا له من منظر خلاب!” لم تهدأ عينا يوريتش لحظةً واحدةً من تأمل هذه المناظر غير العادية. لاحظ كيف أن أهل القرية لا يكترثون بالتعرف على الآخرين، وهو أمرٌ غريبٌ بالنسبة له، فالجميع يعرف بعضهم بعضًا ويحيي بعضهم بعضًا باسمه. “حسنًا، وصلنا، لذا أعتقد أن مهمتي انتهت! اعتنِ بنفسك يا سيدي الكريم! آه!” لقد باءت محاولته للابتعاد عن هذا الرجل القاتل بالفشل عندما أمسك يوريتش بكتفه بما بدا وكأنه قبضة غير قابلة للكسر. “ليس بهذه السرعة ” قال يوريتش ببرود وهو يحدق في وجه دوناو. بدا يوريتش بارعًا في قراءة نوايا الآخرين من خلال تعابير وجوههم ولغة أجسادهم. “إيك!” كانت نظرة يوريتش المصممة كافية لجعل دوناو يتراجع. “اللعنة، لكنه أنقذ حياتي في وقت سابق… إنه قوي ويعرف كيف يقاتل، لذلك ربما إذا تمكنت من الوصول إلى جانبه الجيد…”
الفصل الرابع: اسمي يوريتش ▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لاَ أَعْلَمُ ترجمة: ســاد ▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬ بوو! بدا يوريتش يمضغ بشراسة الطعام المجفف الغريب الذي وجده بين مؤن فريق البعثة، وهو يشدّ عباءة أحد المستكشفين حول كتفيه. كانت جروح السهام تُثير الحكة والألم في آنٍ واحد، لكنه حاول ألا يُوليها اهتمامًا كبيرًا. وثق بقوته الشابة. نزل يوريتش من جبال السماء في مسار بدا وكأنه لا نهاية له نحو القاع. تعثر وتعثر أحيانًا، بل كاد يسقط من جرف، مما كاد أن يقتله. أظهرت له الجبال صعوبة نجاة أي دخيل. المعاملة القاسية والباردة التي تلقاها يوريتش من الجبال جعلته يدرك أن وجوده غير مرغوب فيه. أرادت جبال السماء قتله. بوو. “كاغ!” أحس يوريتش بوجودٍ اثناء نومه. فاستل سيفه بسرعة وطعن ذئبًا اقترب منه كثيرًا لدرجة أنه كاد أن يُودي بحياته. “أعتقد أنني سأتناول ذئبًا على الفطور ” قال يوريتش وهو يضحك ساخرًا من عيون الذئاب التي حدقت به في الظلام. استطاع يوريتش أن يرى التوهج الخافت في عيونهم من انعكاس ضوء القمر. “هناك خمسة منهم ” حسب يوريتش في ذهنه بينما يمد جسده المتيبس من البرد ويدير رأسه يمينًا ويسارًا. بوو! بوو! دفأت عضلاته الباردة بسرعة. بدا يوريتش مستعدًا لمعركة أخرى. “هَف.” خلّف زفير يوريتش الخفيف أثرًا من البخار الأبيض الذي سرعان ما تبدد في هواء الصباح البارد. كان قد نزل مسافةً كبيرة، فخفّ شعوره بدوار المرتفعات الذي كان يُزعجه. بدا أن الذئاب أدركت أن يوريتش ليس فريسة، فعادوا إلى الغابة. “ذكيٌّ جدًا بالنسبة لحيوان ” همس يوريتش وهو يشاهد الذئاب تختفي في الغسق. لم تكن الشمس لتشرق قريبًا، لكن يوريتش قرر استئناف هبوطه. ’العالم وراء الجبال!’ لمعت عينا يوريتش فضولاً ودهشةً، ورأى نفسه يبتسم للإمكانيات الجديدة. ’سأراه بأم عينيّ.’ أصبح لدى يوريتش الآن مؤن فريق البعثة. تخلى عن حقيبته الجلدية البالية وارتدى ملابس المستكشفين. “دروعهم المعدنية أقوى من دروعنا، وملابسهم ناعمة ودافئة في نفس الوقت.” بدا يوريتش مفتونًا بكل شيء جديد يكتشفه في المؤن. كان يتجه بعيدًا عن منزله دون أن يُخبر إخوته أنه لا يزال على قيد الحياة وبصحة جيدة. كاد قلبه أن ينفجر من فرط مشاعره. “لا بد أن هذه الأرض الجديدة تستحق كل هذا العناء!” مع إشراقة الشمس على قمم الجبال المغطاة بالثلوج، تمكن يوريتش أخيرًا من رؤية ما كان يحلم به منذ زمن طويل: الجانب الآخر من جبال السماء. “يا أرضًا غريبة، وصلتُ أخيرًا!” أطلق يوريتش زئيرًا قويًا، زئيرًا كان كافيًا لإبعاد طيور الجبال عن أشجارها. شعر بموجة جديدة من الطاقة المنعشة في جسده المنهك. “هاه… هاها!” ضحك يوريتش من شدة النشوة بينما كان يركض بسرعة طوال الطريق إلى أسفل الجبال حتى وصل إلى السهول دون أن يتوقف ولو مرة واحدة. “عرفتُ أن تلك العجوز المُسنّة لا تعرف ما تقصده! هذا ليس عالم الأرواح. إنها أرض واحدة! مع أناس مثلنا! ” هتف يوريتش وهو يلتقط حفنة من العشب من الأرض ويشم رائحة التراب المألوفة. العشب، التراب، كل ما رآه وشعر به في وطنه. “ه … “أنا قادم، هنا قادم! يوريتش قادم!” بحث يوريتش عن نهر. يعلم أنه للعثور على قرية، لا بد من وجود مجرى نهر. القرى تُبنى دائمًا على ضفاف المسطح المائي المنحدر من الجبال، إذ لا يوجد إنسان واحد في هذا العالم يستطيع العيش بدون ماء. * * * في مكان ما على مشارف مدينة ليست بعيدة عن جبال السماء، كان هناك ثلاثة أعضاء من عصابة كبيرة يطاردون محتالًا. ” اللعنة! ارجع إلى هنا أيها المحتال الحقير!” ” هاف، هاف.” كان المحتال رجلاً نحيفًا ذا مظهر هش. كان يكسب رزقه من الرهانات المزورة، وللأسف، اليوم ينجو بحياته بعد أن ألقي القبض عليه متلبسًا من قبل هؤلاء الرجال الثلاثة. “أوه، هيو.” كان المحتال يلهث بشدة. لم يكن في حالة جيدة على الإطلاق. “إذا أمسكوا بي، سيقتلونني. حتى لو لم يقتلوني، سأتعرض للضرب المبرح.” بدا يركض هربًا من الموت. ثم، صدمته صخرة صغيرة، بالكاد تكفي لتُشكّل عائقًا، فسقط أرضًا. ربما كان ذلك جزاءً. بوو! أصبح المحتال مغطى بسحابة من الغبار بينما يتدحرج عاجزًا على الأرض. “هههه، يا ابن العاهرة الحقير، انظر إلى نفسك الآن! هيا، أحضر الخنجر. سنعتني بأصابعه الصغيرة القذرة أولًا، أيها الوغد الماكر ” صرّح أحد أفراد العصابة وهو يمسك المحتال من ياقته. توسل المحتال المرعوب بشدة طالبًا الرحمة. ” يا سيدي، أرجوك سامحني هذه المرة فقط، أتوسل إليك! لن أحاول خداعك مرة أخرى. سأفعل ما تشاء، أرجوك لا تقتلني!” “سيدي؟ لا أريد سماع كل هذا الهراء من شخص حقير مثلك.” ضحك عضو العصابة وهو يمسك بالخنجر الذي قُدِّم له. “لا يا سيدي، من فضلك، ليس بيدي! آه!” كافح المحتال بشراسة في محاولة يائسة للهرب من قبضة الرجل الذي كان أضخم وأقوى منه بكثير، لكن دون جدوى. أمسكه الرجال من كتفيه. بوو! بينما كان الرجال الأربعة منشغلين بإحداث ضجة، اقترب منهم رجل آخر. ” أوه! أرجوك ساعدني! سأعطيك أي شيء تريده! ” نادى المحتال على الرجل الغامض بيأس. ثم صفع أحد الرجال الرجل العاجز على وجهه. “يا إلهي، فقط اصمت قبل أن أقطع لسانك أولاً.” ألقى أفراد العصابة نظرة على الرجل الغامض. كان يرتدي ملابس متسخة، وفي حزامه سيف فقط. من مظهره، بدا وكأنه مسافر. هذا المسافر يُدعى يوريتش. هؤلاء الرجال الأربعة أول من قابلهم منذ نزوله من الجبال. راقب الرجال أمامه بفضول. “ما الذي تنظر إليه بحق الجحيم؟ انصرف ” قال أحد الرجال ليوريتش، ولكن كما حدث مع رجال فوردجال، لم يفهم يوريتش لغتهم. مجموعة منهم تلاحق ذلك الرجل. ماذا يفعلون؟ أراد يوريتش معرفة ما يحدث، لكن لم تكن هناك طريقة للتواصل مع هؤلاء الرجال. كل ما كان بإمكانه فعله هو المشاهدة ورؤية ما سيفعلونه. “أعلم أنكم لا تفهمونني، لكن تابعوا. أريد فقط أن أرى ما تفعلونه ” قال يوريتش للرجال وهو يطوي ذراعيه. صُدم الرجال من صوت لغة أجنبية. “هل هو… أجنبي؟ لا أظن أنني سمعت هذه اللغة من قبل ” قال أحدهم للآخرين. “ربما يكون من سكان الريف الجنوبيين.” ضحك أفراد العصابة فيما بينهم وهم يطردون يوريتش بعيدًا، لكن يوريتش لم يكن ينوي التحرك قيد أنملة. كان مصممًا على معرفة ما سيحدث بعد ذلك. يا رجل، ألا ترى ما نفعله هنا؟ ماذا، هل تريد أن تموت معه؟ انصرف، هذا من أجل مصلحتك! تنهد أحد الرجال وهو يتجه نحو يوريتش. حرك يده ليمسك بالخنجر الذي بحجم ساعده محاولًا ترهيبه. لكن ما إن وضع يده على الخنجر، حتى لمع شيء أمام عينيه، حتى قبل أن يرمش.
---
ترجمة موقع ملوك الروايات. لا تُلهِكُم القراءة عن اداء الصلوات فى أوقاتها و لا تنسوا نصيبكم من القرآن
أشترك الان من هنا. ولامزيد من الاعلانات