الفصل 25: المعمودية
▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬
اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لاَ أَعْلَمُ
ترجمة: ســاد
▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬
وصل يوريتش ومرتزقته أخيرًا إلى المدينة بعد أن جابوا أربع بلدات صغيرة وأقاليم أخرى. وما إن وصلوا، حتى انبهر المرتزقة بأجواء المدينة النابضة بالحياة، فراحوا يتبادلون النكات.
“أصدقك القول يا رجل! ثدييها كانا بحجم رأسك.”
“اصمت، ما نوع المرأة التي لديها ثديين بهذا الحجم؟”
“يا رجل، أقسم، لقد كانوا ضخامًا! لماذا لا تصدقني؟”
“سأكون أكثر تصديقًا إذا أخبرتني أن حجم قضيبك بحجم ساعدي.”
تبادل المرتزقة المزاح. ولأن فرقة مرتزقة يوريتش صغيرة نسبيًا، بدا نُزُل أو نُزُلان كافيين لإيواء الجميع.
“يا إلهي، انتهينا أخيرًا من التخييم ” قال دونوفان وهو يحك رأسه. كلما لم تتمكن الفرقة من الوصول إلى مدينة عند غروب الشمس، كان عليهم الاكتفاء بالتخييم. لم تكن القرى الصغيرة يومًا مجهزة لاستضافة فرقة مرتزقة، لذا كانت الأيام التي يجدون فيها حظيرة كبيرة للإقامة تُعتبر أيام حظ.
“يجب أن يكون هناك بعض العمل اللائق لنا هنا ” لاحظ باتشمان وهو ينظر إلى الشوارع المزدحمة.
“ما اسم هذه المدينة؟” سأل يوريتش، وفكر باتشمان لثانية واحدة.
“هذه مدينة هافيلوند. تشهد نشاطًا تجاريًا كبيرًا بفضل موقعها الجغرافي المتميز. زرتها عدة مرات عندما كنت أعمل حمالًا قبل فترة تواجدي في المصارع.”
بدا باتشمان واسع الاطلاع. تعلّم وخبر أشياءً كثيرة خلال عمله كصياد ووظائف أخرى قبل أن يصبح مصارعًا.
كانت مدينة هافيلوند تضمّ عددًا كبيرًا من النُزُل، تليق بمدينة تجارية. كان معظمها يُشغّل الطابق الأرضي كحانات، وكانت غرف النوم تقع على أطرافه، ومعظمها في الطابق الثاني. استأجر يوريتش ومرتزقته أحد النُزُل الكبيرة بالكامل.
“من الآن فصاعدًا، كل يوم يكلفنا مالًا. إن لم نجد وظيفة مناسبة في هذه المدينة، فقد ننام في الشوارع ” حذّر باتشمان زملاءه المرتزقة وهو يفكّ أمتعته.
” حسنًا، هذا يكفي. لنشرب بعض المشروبات! ” جرّ يوريتش باتشمان إلى الحانة.
“هل هؤلاء الرجال هم مرتزقة “أخوة يوريتش”؟”
“الذين أوقفوا الأسد الفضي؟”
“واو، إنهم حقًا فرقة صغيرة. لا أعتقد أن لديهم حتى ثلاثين.”
“هل أوقفوا الأسد الفضي مع هؤلاء الرجال القلائل؟”
“سمعت أنهم في الواقع قاتلوا الأسد الفضي.”
تبادل رواد الحانة أطراف الحديث وهم ينظرون إلى جماعة يوريتش. بدا وكأن المرتزقة المهووسين قد نشروا أسماءهم في المدينة بالفعل.
“ههه، هذا صحيح. نحن أخوة يوريتش الشهيرة! إخوة الزعيم البربري يوريتش!”
“نعم، كان فريق “الأسد الفضي” خصمًا قويًا. كدتُ افقد رأسي.”
كان المرتزقة منشغلين بالثناء على أنفسهم، لكن لم يُكلف أحد نفسه عناء إيقافهم. ففي النهاية، لم تكن الشهرة المتزايدة أمرًا سيئًا لفرقة المرتزقة، لأنها تُتيح لهم فرصًا وظيفية أعلى أجرًا. أما بالنسبة لفرق المرتزقة الأصغر حجمًا، فكانت سمعتهم هي الشيء الوحيد الذي يضمن لهم رواتبهم.
“طلبتُ منهم أن ينشروا الخبر ويتفاخروا قليلاً. علينا أن نُعلم الناس أننا هنا ” قال دونوفان ليوريتش. كان قد انتهى لتوه من تفريغ أمتعته.
“حسنًا، حسنًا، كل شيء على ما يرام. الآن، ماذا علينا أن نفعل؟” نظر يوريتش إلى المرتزقة بابتسامة على وجهه. مع أنه كان قائدهم نظريًا، إلا أنه كان دائمًا يسألهم عن رأيهم. وبفضل هذا الموقف، لم يكن أحد يعارضه كقائد لهم، حتى دونوفان. يحترم معاملة يوريتش للجميع بإنصاف، بغض النظر عن مشاكلهم الشخصية.
“إخوتي ليسوا هنا معي، ولكن في هذه الأرض، هؤلاء الرجال هم إخوتي.”
أقسم يوريتش على نفسه أنه سوف يعتبر المرتزقة الذين قاتلوا جنبًا إلى جنب معه بمثابة إخوته.
“أولًا، علينا إيجاد عمل وجمع بعض المعلومات. ربما يكون هناك سوق أكبر للمرتزقة في مدينة كهذه، حتى لو كانت مجرد وظيفة حارس شخصي. لكن هذا لا يعني أن من لا يبحث عن عمل سيتكاسل مع الخمر والنساء. سيتعين عليهم تلميع الأسلحة والدروع التي لم نتمكن من الوصول إليها أثناء تخييمنا ” قال دونوفان ببرود.
” سآخذ ثلاثة معي لجمع تلك المعلومات. دونوفان، أنت مسؤول عن فريق الصيانة.” تقدم باتشمان، الأكثر اجتماعية بين الشخصيات الأربعة المؤثرة، أولاً. أومأ دونوفان برأسه.
“يجب أن أذهب إلى مكان ما. سيتعين عليك إخراجي من الجدول، أنا آسف ” قال سفين وهو يرفع يده بهدوء. كان صوته منخفضًا وثقيلًا، وهذا، إلى جانب لحيته الكثيفة، جعله يبدو الأكبر سنًا في الفرقة.
“إلى أين أنت ذاهب؟” سأل يوريتش.
“لابد أن مدينة كهذه تحتوي على سوق للعبيد.”
“أجل، على الأرجح. لكن ماذا عن ذلك؟ أنت لا تحاول العودة إلى العبودية، أليس كذلك؟ يمكنك الانضمام إلى حقل السيوف كمرتزق أيضًا يا جدي ” أُعجب يوريتش بسفين. لقد أعطى شعورًا مشابهًا للمحاربين في قبيلته.
“هناك احتمال كبير أن شعبي يُباع كعبيد. إذا سمحت الأموال، أريد إنقاذ واحد منهم على الأقل.”
لم يكن لدى أحد ما يقوله لسفين. لم يكن هناك مرتزق واحد لا يمانع في أن ينقذ سفين شعبه الذين كانوا يُباعون كعبيد.
“سأذهب مع الجد سفين. دونوفان وباتشمان، أترك الباقي لكم.”
أمسك يوريتش سيفه فقط ووضعه في غمده من حزامه قبل مغادرة النزل مع سفين.
“مرحبًا يا جدي، كم عمرك؟ لا أعرف بسبب كل الشعر واللحية التي تغطي وجهك. ”
سار يوريتش وسفين في الشارع. كل من كان يسير في الاتجاه المعاكس أفسح الطريق للبربريين الضخمين عند مرورهما.
“لستُ متأكدًا يا بني. توقفتُ عن تسجيل عمري بعد مراسم بلوغي.”
“جدي، أنا القائد. أنت تعرف ذلك، أليس كذلك؟ هل ستظل تُناديني ببني؟”
“هذا لا يغير من حقيقة أنك شاب، باهاها!” أطلق سفين ضحكة خشنة. بحث عن سوق العبيد وهو يمسد لحيته الملطخة بالبصاق. بدا سوق العبيد في هذه المدينة كبيرًا لأنها مدينة تجارية.
“ماذا لو أحضرنا بعض العبيد لفرقتنا؟ كما في أيام المصارعين. ما رأيك؟” اقترح يوريتش وهو ينظر إلى النساء العاريات. كنّ يُبقين وجوههنّ منخفضةً في انتظار سيدهنّ. كان المارة يتحسسون أجسادهنّ أثناء مرورهنّ.
” لم يعد لدينا حورس… من الأفضل ألا يكون لدينا. لا يمكن لأي امرأة أن تحافظ على رباطة جأشها بعد أن يضاجعها رجالنا – لن يشعروا حتى بأنهم بشر بعد الآن. كان ذلك ممكنًا فقط لأن حورس عرف كيف يعتني بهم.”
“لقد كنت عبدًا أيضًا، يا جدي.”
“قد يكون جسدي عبدا، لكن روحي كانت حرة.”
“هاه، هذه بعض الكلمات الفاخرة ” نقر يوريتش على لسانه.
“كانت روحي دائمًا متجهة نحو حقل السيوف. جدنا أولجارو ينتظرني هناك.”
“أولجارو؟ لا بأس. استمر بالبحث.”
تأمل يوريتش مشهد سوق العبيد وهو يصفر لحنًا. كان العشرات من العبيد يُباعون كما لو كانوا سلعًا – هذا كل ما كانوا عليه في هذا الجزء من العالم.
بوو!
سفين قد أحضر معه كل ما تبقى لديه تقريبًا من مال، و يكفي بالكاد لشراء عبد.
“همم ” فتش سفين سوق العبيد بعناية. اختار مرشحًا مثاليًا، ثم تقدم نحوه وهمس في أذنه: “اختر يا أخي. هل ستعيش حياتك عبدًا، أم ستأتي معي إلى حقل السيوف؟”
فتح العبد الشمالي المقيد عينيه فجأةً ونظر إلى سفين. كانا يتحدثان بلغة الشمال، فلم يستطع أحدٌ فهم حديثهما.
“أختار الذهاب إلى الحقل، حيث ينتظرني أولجارو، أخي ” أجاب الشمالي بثقة. بناءً على كلامه، تفاوض سفين مع التاجر على السعر ودفع ثمن حريته. بعد التأكد من المبلغ الذي دفعه سفين، أطلق تاجر الرقيق سراح الشمالي.
نقرة.
حدق الشمالي المحرّر في تاجر الرقيق بنظرة قاتلة، وانهال عليه بشتائم بلغة أجنبية.
“كفى. هل تحاول أن تُعدم هنا على يد الحراس؟” سفين أوقف الشمالي.
“هل سينضم إلى فرقتنا؟” سأل يوريتش سفين وهو ينظر إلى الرجل المُحرَّر حديثًا. ناقش سفين شيئًا مع الرجل بلغتهم ثم أجاب.
“هذا الرجل محارب. أنقذناه من مصير الموت الشاق كعبد، وهو الآن في طريقه إلى الميدان. سيكون المحارب الأكثر ولاءً لفرقتنا، مثلي تمامًا.”
بدا سفين محاربًا صارمًا. لم يره أحدٌ من فرقة المرتزقة يُبذر أمواله على الترف، إذ يدّخر كل ما كسبه لتحرير شعبه.
“لو كان إخوتي عبيدًا، لفعلتُ ما فعلتَه يا شيخ. حتى لو كلّف ذلك سفك بعض الدماء…” صمت يوريتش.
“احذر من شغفك يا يوريتش. فالصبر قد يكون فضيلةً ضروريةً أحيانًا ” نصح سفين يوريتش، الذي فتح عينيه على مصراعيهما وابتسم.
“أنا رجل صبور جدًا يا سفين. أعرف متى أستخدمه ومتى لا أستخدمه.”
حدّق سفين في يوريتش. بدا يوريتش محاربًا شابًا قويًا. من الواضح للجميع أنه سيصبح عظيمًا. أراد البقاء بجانبه ودعمه لأطول فترة ممكنة.
عاد يوريتش وسفين إلى النزل الذي يقيم فيه المرتزقة. ومع غروب الشمس، عاد الرجال الذين خرجوا لجمع المعلومات.
“وجدنا وظيفة جيدة يا يوريتش. إنها من عند اللورد هنا ” قال باتشمان وهو يطلب بيرة. جلس على مقعد ودلك ساقيه المتعبتين بعد يوم طويل من المشي.
“مباشرة من اللورد، أليس كذلك؟”
“يبدو أنه يبحث عن مرتزقة لمساعدة الجيش النظامي في إبادة قطاع الطرق. اسمع يا يوريتش. هذه هي المدينة. هذا ليس نبيلًا بسيطًا كما قبل، إنه رجل حقيقي! يمكننا التفاوض للحصول على راتب كبير. ربما سيكون هذا أكثر من كافٍ لتبديل هذه الدروع الجلدية المهترئة!”
“هووي، يعجبني هذا. الدروع المعدنية لا تناسبني ” لوّح له يوريتش.
“لا بأس. لدينا اجتماع معه غدًا. سنتحدث معه حينها ” قال باتشمان وهو يربت على ظهر يوريتش. ابتسم يوريتش ابتسامة خفيفة.
“أعلم أننا لم نحصل على الوظيفة بعد، لكن لنستمتع بهذه الليلة! الحياة قصيرة و…”
“هناك الكثير من المشروبات! هوه!”
أفرغ المرتزقة أكوابهم في لمح البصر، وأغلقوا الطاولات بقوة. هزّ صاحب النزل رأسه حين تردد صدى صوت طقطقة طاولاته في أرجاء الحانة.
* * *
السور الداخلي في قلب مدينة هافيلوند. الأسوار الخارجية تحمي المدينة بأكملها، بينما الجزء الداخلي منها مقر إقامة النبلاء. منطقة حضرية كهذه المدينة غنية ومتينة، و بمثابة النقاط المحورية في مناطقها.
بوو!
دخل يوريتش وبعض المرتزقة الآخرين الأسوار الداخلية. وكان خادمٌ دليلهم.
يا لها من قلعةٍ رائعة! ” قال باتشمان بدهشة وهو ينظر إلى ممرات القلعة الداخلية. بدت النوافذ مصنوعة من زجاج ملون، مما جعل الضوء يتألق بألوان مختلفة.
“هل صنع شخصٌ ما هذه المنحوتات؟” سأل يوريتش بعد رؤية التماثيل النصفية البشرية المعروضة في الرواق. بدت دقيقةً ومنحوتةً بدقة، كأنها بشر حقيقيون. تجولت عينا يوريتش بين الأعمال الفنية.
“انظر إلى هذا البربري. هذه تحفة الحضارة.”
شعر الخادم بفخرٍ لا يستحقه، وكأن المنحوتات من صنعه. وقد وصلت قصة حرب أخوة يوريتش إلى مدينة هافيلاند عبر أفواه الشعراء.
” من فضلكم، أبقوا أيديكم بعيدة عن التماثيل. هذه تماثيل لملوك سابقين، فإذا انكسرت… لن يعوضها أي مبلغ من المال…” قال الخادم بغطرسة، ثم فتح عينيه على اتساعهما.
“هاه؟ هل قلتَ شيئًا؟ همم؟” أدار يوريتش جسده وضرب أحد التمثالين بكتفه. انقلب التمثال وسقط على الأرض.
“أوه، كدتُ أكسر واحدًا ” قال يوريتش بلا مبالاة وهو يمسك بأصابع قدميه التمثال الساقط برشاقة. كانت خدعة حقيقية.
“يا إلهي!” شهق الخادم وأعاد التمثال النصفي إلى مكانه.
” قلتَ إن هذا الشيء غالي، أليس كذلك؟ إذا كان غاليًا لهذه الدرجة، فاحفظه في مكانٍ آمن! إنه يعيق طريقي لأنك وضعته في أي مكان.” ألقى يوريتش اللوم على الخادم. ضحك المرتزقة الآخرون خلفه.
“سأحضرك إلى اللورد فورًا، لذا اتبعني من فضلك. لا تلمس أي شيء آخر، من فضلك!” صرخ الخادم. خاب أمل يوريتش لأنه لم يستطع إشباع فضوله.
“هذا مُذهل. “الحضارة” التي أسسها هؤلاء الناس مُذهلة.”
بدا يوريتش، مندهشًا ومُعجبًا. الكتابة والفنون والعمارة التي أبدعها هؤلاء المتحضرون، جميعها، في نظره، فاتنة الجمال.
وصل يوريتش ومرتزقته أخيرًا إلى المدينة بعد أن جابوا أربع بلدات صغيرة وأقاليم أخرى. وما إن وصلوا، حتى انبهر المرتزقة بأجواء المدينة النابضة بالحياة، فراحوا يتبادلون النكات. “أصدقك القول يا رجل! ثدييها كانا بحجم رأسك.” “اصمت، ما نوع المرأة التي لديها ثديين بهذا الحجم؟” “يا رجل، أقسم، لقد كانوا ضخامًا! لماذا لا تصدقني؟” “سأكون أكثر تصديقًا إذا أخبرتني أن حجم قضيبك بحجم ساعدي.” تبادل المرتزقة المزاح. ولأن فرقة مرتزقة يوريتش صغيرة نسبيًا، بدا نُزُل أو نُزُلان كافيين لإيواء الجميع. “يا إلهي، انتهينا أخيرًا من التخييم ” قال دونوفان وهو يحك رأسه. كلما لم تتمكن الفرقة من الوصول إلى مدينة عند غروب الشمس، كان عليهم الاكتفاء بالتخييم. لم تكن القرى الصغيرة يومًا مجهزة لاستضافة فرقة مرتزقة، لذا كانت الأيام التي يجدون فيها حظيرة كبيرة للإقامة تُعتبر أيام حظ. “يجب أن يكون هناك بعض العمل اللائق لنا هنا ” لاحظ باتشمان وهو ينظر إلى الشوارع المزدحمة. “ما اسم هذه المدينة؟” سأل يوريتش، وفكر باتشمان لثانية واحدة. “هذه مدينة هافيلوند. تشهد نشاطًا تجاريًا كبيرًا بفضل موقعها الجغرافي المتميز. زرتها عدة مرات عندما كنت أعمل حمالًا قبل فترة تواجدي في المصارع.” بدا باتشمان واسع الاطلاع. تعلّم وخبر أشياءً كثيرة خلال عمله كصياد ووظائف أخرى قبل أن يصبح مصارعًا. كانت مدينة هافيلوند تضمّ عددًا كبيرًا من النُزُل، تليق بمدينة تجارية. كان معظمها يُشغّل الطابق الأرضي كحانات، وكانت غرف النوم تقع على أطرافه، ومعظمها في الطابق الثاني. استأجر يوريتش ومرتزقته أحد النُزُل الكبيرة بالكامل. “من الآن فصاعدًا، كل يوم يكلفنا مالًا. إن لم نجد وظيفة مناسبة في هذه المدينة، فقد ننام في الشوارع ” حذّر باتشمان زملاءه المرتزقة وهو يفكّ أمتعته. ” حسنًا، هذا يكفي. لنشرب بعض المشروبات! ” جرّ يوريتش باتشمان إلى الحانة. “هل هؤلاء الرجال هم مرتزقة “أخوة يوريتش”؟” “الذين أوقفوا الأسد الفضي؟” “واو، إنهم حقًا فرقة صغيرة. لا أعتقد أن لديهم حتى ثلاثين.” “هل أوقفوا الأسد الفضي مع هؤلاء الرجال القلائل؟” “سمعت أنهم في الواقع قاتلوا الأسد الفضي.” تبادل رواد الحانة أطراف الحديث وهم ينظرون إلى جماعة يوريتش. بدا وكأن المرتزقة المهووسين قد نشروا أسماءهم في المدينة بالفعل. “ههه، هذا صحيح. نحن أخوة يوريتش الشهيرة! إخوة الزعيم البربري يوريتش!” “نعم، كان فريق “الأسد الفضي” خصمًا قويًا. كدتُ افقد رأسي.” كان المرتزقة منشغلين بالثناء على أنفسهم، لكن لم يُكلف أحد نفسه عناء إيقافهم. ففي النهاية، لم تكن الشهرة المتزايدة أمرًا سيئًا لفرقة المرتزقة، لأنها تُتيح لهم فرصًا وظيفية أعلى أجرًا. أما بالنسبة لفرق المرتزقة الأصغر حجمًا، فكانت سمعتهم هي الشيء الوحيد الذي يضمن لهم رواتبهم. “طلبتُ منهم أن ينشروا الخبر ويتفاخروا قليلاً. علينا أن نُعلم الناس أننا هنا ” قال دونوفان ليوريتش. كان قد انتهى لتوه من تفريغ أمتعته. “حسنًا، حسنًا، كل شيء على ما يرام. الآن، ماذا علينا أن نفعل؟” نظر يوريتش إلى المرتزقة بابتسامة على وجهه. مع أنه كان قائدهم نظريًا، إلا أنه كان دائمًا يسألهم عن رأيهم. وبفضل هذا الموقف، لم يكن أحد يعارضه كقائد لهم، حتى دونوفان. يحترم معاملة يوريتش للجميع بإنصاف، بغض النظر عن مشاكلهم الشخصية. “إخوتي ليسوا هنا معي، ولكن في هذه الأرض، هؤلاء الرجال هم إخوتي.” أقسم يوريتش على نفسه أنه سوف يعتبر المرتزقة الذين قاتلوا جنبًا إلى جنب معه بمثابة إخوته. “أولًا، علينا إيجاد عمل وجمع بعض المعلومات. ربما يكون هناك سوق أكبر للمرتزقة في مدينة كهذه، حتى لو كانت مجرد وظيفة حارس شخصي. لكن هذا لا يعني أن من لا يبحث عن عمل سيتكاسل مع الخمر والنساء. سيتعين عليهم تلميع الأسلحة والدروع التي لم نتمكن من الوصول إليها أثناء تخييمنا ” قال دونوفان ببرود. ” سآخذ ثلاثة معي لجمع تلك المعلومات. دونوفان، أنت مسؤول عن فريق الصيانة.” تقدم باتشمان، الأكثر اجتماعية بين الشخصيات الأربعة المؤثرة، أولاً. أومأ دونوفان برأسه. “يجب أن أذهب إلى مكان ما. سيتعين عليك إخراجي من الجدول، أنا آسف ” قال سفين وهو يرفع يده بهدوء. كان صوته منخفضًا وثقيلًا، وهذا، إلى جانب لحيته الكثيفة، جعله يبدو الأكبر سنًا في الفرقة. “إلى أين أنت ذاهب؟” سأل يوريتش. “لابد أن مدينة كهذه تحتوي على سوق للعبيد.” “أجل، على الأرجح. لكن ماذا عن ذلك؟ أنت لا تحاول العودة إلى العبودية، أليس كذلك؟ يمكنك الانضمام إلى حقل السيوف كمرتزق أيضًا يا جدي ” أُعجب يوريتش بسفين. لقد أعطى شعورًا مشابهًا للمحاربين في قبيلته. “هناك احتمال كبير أن شعبي يُباع كعبيد. إذا سمحت الأموال، أريد إنقاذ واحد منهم على الأقل.” لم يكن لدى أحد ما يقوله لسفين. لم يكن هناك مرتزق واحد لا يمانع في أن ينقذ سفين شعبه الذين كانوا يُباعون كعبيد. “سأذهب مع الجد سفين. دونوفان وباتشمان، أترك الباقي لكم.” أمسك يوريتش سيفه فقط ووضعه في غمده من حزامه قبل مغادرة النزل مع سفين. “مرحبًا يا جدي، كم عمرك؟ لا أعرف بسبب كل الشعر واللحية التي تغطي وجهك. ” سار يوريتش وسفين في الشارع. كل من كان يسير في الاتجاه المعاكس أفسح الطريق للبربريين الضخمين عند مرورهما. “لستُ متأكدًا يا بني. توقفتُ عن تسجيل عمري بعد مراسم بلوغي.” “جدي، أنا القائد. أنت تعرف ذلك، أليس كذلك؟ هل ستظل تُناديني ببني؟” “هذا لا يغير من حقيقة أنك شاب، باهاها!” أطلق سفين ضحكة خشنة. بحث عن سوق العبيد وهو يمسد لحيته الملطخة بالبصاق. بدا سوق العبيد في هذه المدينة كبيرًا لأنها مدينة تجارية. “ماذا لو أحضرنا بعض العبيد لفرقتنا؟ كما في أيام المصارعين. ما رأيك؟” اقترح يوريتش وهو ينظر إلى النساء العاريات. كنّ يُبقين وجوههنّ منخفضةً في انتظار سيدهنّ. كان المارة يتحسسون أجسادهنّ أثناء مرورهنّ. ” لم يعد لدينا حورس… من الأفضل ألا يكون لدينا. لا يمكن لأي امرأة أن تحافظ على رباطة جأشها بعد أن يضاجعها رجالنا – لن يشعروا حتى بأنهم بشر بعد الآن. كان ذلك ممكنًا فقط لأن حورس عرف كيف يعتني بهم.” “لقد كنت عبدًا أيضًا، يا جدي.” “قد يكون جسدي عبدا، لكن روحي كانت حرة.” “هاه، هذه بعض الكلمات الفاخرة ” نقر يوريتش على لسانه. “كانت روحي دائمًا متجهة نحو حقل السيوف. جدنا أولجارو ينتظرني هناك.” “أولجارو؟ لا بأس. استمر بالبحث.” تأمل يوريتش مشهد سوق العبيد وهو يصفر لحنًا. كان العشرات من العبيد يُباعون كما لو كانوا سلعًا – هذا كل ما كانوا عليه في هذا الجزء من العالم. بوو! سفين قد أحضر معه كل ما تبقى لديه تقريبًا من مال، و يكفي بالكاد لشراء عبد. “همم ” فتش سفين سوق العبيد بعناية. اختار مرشحًا مثاليًا، ثم تقدم نحوه وهمس في أذنه: “اختر يا أخي. هل ستعيش حياتك عبدًا، أم ستأتي معي إلى حقل السيوف؟” فتح العبد الشمالي المقيد عينيه فجأةً ونظر إلى سفين. كانا يتحدثان بلغة الشمال، فلم يستطع أحدٌ فهم حديثهما. “أختار الذهاب إلى الحقل، حيث ينتظرني أولجارو، أخي ” أجاب الشمالي بثقة. بناءً على كلامه، تفاوض سفين مع التاجر على السعر ودفع ثمن حريته. بعد التأكد من المبلغ الذي دفعه سفين، أطلق تاجر الرقيق سراح الشمالي. نقرة. حدق الشمالي المحرّر في تاجر الرقيق بنظرة قاتلة، وانهال عليه بشتائم بلغة أجنبية. “كفى. هل تحاول أن تُعدم هنا على يد الحراس؟” سفين أوقف الشمالي. “هل سينضم إلى فرقتنا؟” سأل يوريتش سفين وهو ينظر إلى الرجل المُحرَّر حديثًا. ناقش سفين شيئًا مع الرجل بلغتهم ثم أجاب. “هذا الرجل محارب. أنقذناه من مصير الموت الشاق كعبد، وهو الآن في طريقه إلى الميدان. سيكون المحارب الأكثر ولاءً لفرقتنا، مثلي تمامًا.” بدا سفين محاربًا صارمًا. لم يره أحدٌ من فرقة المرتزقة يُبذر أمواله على الترف، إذ يدّخر كل ما كسبه لتحرير شعبه. “لو كان إخوتي عبيدًا، لفعلتُ ما فعلتَه يا شيخ. حتى لو كلّف ذلك سفك بعض الدماء…” صمت يوريتش. “احذر من شغفك يا يوريتش. فالصبر قد يكون فضيلةً ضروريةً أحيانًا ” نصح سفين يوريتش، الذي فتح عينيه على مصراعيهما وابتسم. “أنا رجل صبور جدًا يا سفين. أعرف متى أستخدمه ومتى لا أستخدمه.” حدّق سفين في يوريتش. بدا يوريتش محاربًا شابًا قويًا. من الواضح للجميع أنه سيصبح عظيمًا. أراد البقاء بجانبه ودعمه لأطول فترة ممكنة. عاد يوريتش وسفين إلى النزل الذي يقيم فيه المرتزقة. ومع غروب الشمس، عاد الرجال الذين خرجوا لجمع المعلومات. “وجدنا وظيفة جيدة يا يوريتش. إنها من عند اللورد هنا ” قال باتشمان وهو يطلب بيرة. جلس على مقعد ودلك ساقيه المتعبتين بعد يوم طويل من المشي. “مباشرة من اللورد، أليس كذلك؟” “يبدو أنه يبحث عن مرتزقة لمساعدة الجيش النظامي في إبادة قطاع الطرق. اسمع يا يوريتش. هذه هي المدينة. هذا ليس نبيلًا بسيطًا كما قبل، إنه رجل حقيقي! يمكننا التفاوض للحصول على راتب كبير. ربما سيكون هذا أكثر من كافٍ لتبديل هذه الدروع الجلدية المهترئة!” “هووي، يعجبني هذا. الدروع المعدنية لا تناسبني ” لوّح له يوريتش. “لا بأس. لدينا اجتماع معه غدًا. سنتحدث معه حينها ” قال باتشمان وهو يربت على ظهر يوريتش. ابتسم يوريتش ابتسامة خفيفة. “أعلم أننا لم نحصل على الوظيفة بعد، لكن لنستمتع بهذه الليلة! الحياة قصيرة و…” “هناك الكثير من المشروبات! هوه!” أفرغ المرتزقة أكوابهم في لمح البصر، وأغلقوا الطاولات بقوة. هزّ صاحب النزل رأسه حين تردد صدى صوت طقطقة طاولاته في أرجاء الحانة. * * * السور الداخلي في قلب مدينة هافيلوند. الأسوار الخارجية تحمي المدينة بأكملها، بينما الجزء الداخلي منها مقر إقامة النبلاء. منطقة حضرية كهذه المدينة غنية ومتينة، و بمثابة النقاط المحورية في مناطقها. بوو! دخل يوريتش وبعض المرتزقة الآخرين الأسوار الداخلية. وكان خادمٌ دليلهم. يا لها من قلعةٍ رائعة! ” قال باتشمان بدهشة وهو ينظر إلى ممرات القلعة الداخلية. بدت النوافذ مصنوعة من زجاج ملون، مما جعل الضوء يتألق بألوان مختلفة. “هل صنع شخصٌ ما هذه المنحوتات؟” سأل يوريتش بعد رؤية التماثيل النصفية البشرية المعروضة في الرواق. بدت دقيقةً ومنحوتةً بدقة، كأنها بشر حقيقيون. تجولت عينا يوريتش بين الأعمال الفنية. “انظر إلى هذا البربري. هذه تحفة الحضارة.” شعر الخادم بفخرٍ لا يستحقه، وكأن المنحوتات من صنعه. وقد وصلت قصة حرب أخوة يوريتش إلى مدينة هافيلاند عبر أفواه الشعراء. ” من فضلكم، أبقوا أيديكم بعيدة عن التماثيل. هذه تماثيل لملوك سابقين، فإذا انكسرت… لن يعوضها أي مبلغ من المال…” قال الخادم بغطرسة، ثم فتح عينيه على اتساعهما. “هاه؟ هل قلتَ شيئًا؟ همم؟” أدار يوريتش جسده وضرب أحد التمثالين بكتفه. انقلب التمثال وسقط على الأرض. “أوه، كدتُ أكسر واحدًا ” قال يوريتش بلا مبالاة وهو يمسك بأصابع قدميه التمثال الساقط برشاقة. كانت خدعة حقيقية. “يا إلهي!” شهق الخادم وأعاد التمثال النصفي إلى مكانه. ” قلتَ إن هذا الشيء غالي، أليس كذلك؟ إذا كان غاليًا لهذه الدرجة، فاحفظه في مكانٍ آمن! إنه يعيق طريقي لأنك وضعته في أي مكان.” ألقى يوريتش اللوم على الخادم. ضحك المرتزقة الآخرون خلفه. “سأحضرك إلى اللورد فورًا، لذا اتبعني من فضلك. لا تلمس أي شيء آخر، من فضلك!” صرخ الخادم. خاب أمل يوريتش لأنه لم يستطع إشباع فضوله. “هذا مُذهل. “الحضارة” التي أسسها هؤلاء الناس مُذهلة.” بدا يوريتش، مندهشًا ومُعجبًا. الكتابة والفنون والعمارة التي أبدعها هؤلاء المتحضرون، جميعها، في نظره، فاتنة الجمال.
وصل يوريتش ومرتزقته أخيرًا إلى المدينة بعد أن جابوا أربع بلدات صغيرة وأقاليم أخرى. وما إن وصلوا، حتى انبهر المرتزقة بأجواء المدينة النابضة بالحياة، فراحوا يتبادلون النكات. “أصدقك القول يا رجل! ثدييها كانا بحجم رأسك.” “اصمت، ما نوع المرأة التي لديها ثديين بهذا الحجم؟” “يا رجل، أقسم، لقد كانوا ضخامًا! لماذا لا تصدقني؟” “سأكون أكثر تصديقًا إذا أخبرتني أن حجم قضيبك بحجم ساعدي.” تبادل المرتزقة المزاح. ولأن فرقة مرتزقة يوريتش صغيرة نسبيًا، بدا نُزُل أو نُزُلان كافيين لإيواء الجميع. “يا إلهي، انتهينا أخيرًا من التخييم ” قال دونوفان وهو يحك رأسه. كلما لم تتمكن الفرقة من الوصول إلى مدينة عند غروب الشمس، كان عليهم الاكتفاء بالتخييم. لم تكن القرى الصغيرة يومًا مجهزة لاستضافة فرقة مرتزقة، لذا كانت الأيام التي يجدون فيها حظيرة كبيرة للإقامة تُعتبر أيام حظ. “يجب أن يكون هناك بعض العمل اللائق لنا هنا ” لاحظ باتشمان وهو ينظر إلى الشوارع المزدحمة. “ما اسم هذه المدينة؟” سأل يوريتش، وفكر باتشمان لثانية واحدة. “هذه مدينة هافيلوند. تشهد نشاطًا تجاريًا كبيرًا بفضل موقعها الجغرافي المتميز. زرتها عدة مرات عندما كنت أعمل حمالًا قبل فترة تواجدي في المصارع.” بدا باتشمان واسع الاطلاع. تعلّم وخبر أشياءً كثيرة خلال عمله كصياد ووظائف أخرى قبل أن يصبح مصارعًا. كانت مدينة هافيلوند تضمّ عددًا كبيرًا من النُزُل، تليق بمدينة تجارية. كان معظمها يُشغّل الطابق الأرضي كحانات، وكانت غرف النوم تقع على أطرافه، ومعظمها في الطابق الثاني. استأجر يوريتش ومرتزقته أحد النُزُل الكبيرة بالكامل. “من الآن فصاعدًا، كل يوم يكلفنا مالًا. إن لم نجد وظيفة مناسبة في هذه المدينة، فقد ننام في الشوارع ” حذّر باتشمان زملاءه المرتزقة وهو يفكّ أمتعته. ” حسنًا، هذا يكفي. لنشرب بعض المشروبات! ” جرّ يوريتش باتشمان إلى الحانة. “هل هؤلاء الرجال هم مرتزقة “أخوة يوريتش”؟” “الذين أوقفوا الأسد الفضي؟” “واو، إنهم حقًا فرقة صغيرة. لا أعتقد أن لديهم حتى ثلاثين.” “هل أوقفوا الأسد الفضي مع هؤلاء الرجال القلائل؟” “سمعت أنهم في الواقع قاتلوا الأسد الفضي.” تبادل رواد الحانة أطراف الحديث وهم ينظرون إلى جماعة يوريتش. بدا وكأن المرتزقة المهووسين قد نشروا أسماءهم في المدينة بالفعل. “ههه، هذا صحيح. نحن أخوة يوريتش الشهيرة! إخوة الزعيم البربري يوريتش!” “نعم، كان فريق “الأسد الفضي” خصمًا قويًا. كدتُ افقد رأسي.” كان المرتزقة منشغلين بالثناء على أنفسهم، لكن لم يُكلف أحد نفسه عناء إيقافهم. ففي النهاية، لم تكن الشهرة المتزايدة أمرًا سيئًا لفرقة المرتزقة، لأنها تُتيح لهم فرصًا وظيفية أعلى أجرًا. أما بالنسبة لفرق المرتزقة الأصغر حجمًا، فكانت سمعتهم هي الشيء الوحيد الذي يضمن لهم رواتبهم. “طلبتُ منهم أن ينشروا الخبر ويتفاخروا قليلاً. علينا أن نُعلم الناس أننا هنا ” قال دونوفان ليوريتش. كان قد انتهى لتوه من تفريغ أمتعته. “حسنًا، حسنًا، كل شيء على ما يرام. الآن، ماذا علينا أن نفعل؟” نظر يوريتش إلى المرتزقة بابتسامة على وجهه. مع أنه كان قائدهم نظريًا، إلا أنه كان دائمًا يسألهم عن رأيهم. وبفضل هذا الموقف، لم يكن أحد يعارضه كقائد لهم، حتى دونوفان. يحترم معاملة يوريتش للجميع بإنصاف، بغض النظر عن مشاكلهم الشخصية. “إخوتي ليسوا هنا معي، ولكن في هذه الأرض، هؤلاء الرجال هم إخوتي.” أقسم يوريتش على نفسه أنه سوف يعتبر المرتزقة الذين قاتلوا جنبًا إلى جنب معه بمثابة إخوته. “أولًا، علينا إيجاد عمل وجمع بعض المعلومات. ربما يكون هناك سوق أكبر للمرتزقة في مدينة كهذه، حتى لو كانت مجرد وظيفة حارس شخصي. لكن هذا لا يعني أن من لا يبحث عن عمل سيتكاسل مع الخمر والنساء. سيتعين عليهم تلميع الأسلحة والدروع التي لم نتمكن من الوصول إليها أثناء تخييمنا ” قال دونوفان ببرود. ” سآخذ ثلاثة معي لجمع تلك المعلومات. دونوفان، أنت مسؤول عن فريق الصيانة.” تقدم باتشمان، الأكثر اجتماعية بين الشخصيات الأربعة المؤثرة، أولاً. أومأ دونوفان برأسه. “يجب أن أذهب إلى مكان ما. سيتعين عليك إخراجي من الجدول، أنا آسف ” قال سفين وهو يرفع يده بهدوء. كان صوته منخفضًا وثقيلًا، وهذا، إلى جانب لحيته الكثيفة، جعله يبدو الأكبر سنًا في الفرقة. “إلى أين أنت ذاهب؟” سأل يوريتش. “لابد أن مدينة كهذه تحتوي على سوق للعبيد.” “أجل، على الأرجح. لكن ماذا عن ذلك؟ أنت لا تحاول العودة إلى العبودية، أليس كذلك؟ يمكنك الانضمام إلى حقل السيوف كمرتزق أيضًا يا جدي ” أُعجب يوريتش بسفين. لقد أعطى شعورًا مشابهًا للمحاربين في قبيلته. “هناك احتمال كبير أن شعبي يُباع كعبيد. إذا سمحت الأموال، أريد إنقاذ واحد منهم على الأقل.” لم يكن لدى أحد ما يقوله لسفين. لم يكن هناك مرتزق واحد لا يمانع في أن ينقذ سفين شعبه الذين كانوا يُباعون كعبيد. “سأذهب مع الجد سفين. دونوفان وباتشمان، أترك الباقي لكم.” أمسك يوريتش سيفه فقط ووضعه في غمده من حزامه قبل مغادرة النزل مع سفين. “مرحبًا يا جدي، كم عمرك؟ لا أعرف بسبب كل الشعر واللحية التي تغطي وجهك. ” سار يوريتش وسفين في الشارع. كل من كان يسير في الاتجاه المعاكس أفسح الطريق للبربريين الضخمين عند مرورهما. “لستُ متأكدًا يا بني. توقفتُ عن تسجيل عمري بعد مراسم بلوغي.” “جدي، أنا القائد. أنت تعرف ذلك، أليس كذلك؟ هل ستظل تُناديني ببني؟” “هذا لا يغير من حقيقة أنك شاب، باهاها!” أطلق سفين ضحكة خشنة. بحث عن سوق العبيد وهو يمسد لحيته الملطخة بالبصاق. بدا سوق العبيد في هذه المدينة كبيرًا لأنها مدينة تجارية. “ماذا لو أحضرنا بعض العبيد لفرقتنا؟ كما في أيام المصارعين. ما رأيك؟” اقترح يوريتش وهو ينظر إلى النساء العاريات. كنّ يُبقين وجوههنّ منخفضةً في انتظار سيدهنّ. كان المارة يتحسسون أجسادهنّ أثناء مرورهنّ. ” لم يعد لدينا حورس… من الأفضل ألا يكون لدينا. لا يمكن لأي امرأة أن تحافظ على رباطة جأشها بعد أن يضاجعها رجالنا – لن يشعروا حتى بأنهم بشر بعد الآن. كان ذلك ممكنًا فقط لأن حورس عرف كيف يعتني بهم.” “لقد كنت عبدًا أيضًا، يا جدي.” “قد يكون جسدي عبدا، لكن روحي كانت حرة.” “هاه، هذه بعض الكلمات الفاخرة ” نقر يوريتش على لسانه. “كانت روحي دائمًا متجهة نحو حقل السيوف. جدنا أولجارو ينتظرني هناك.” “أولجارو؟ لا بأس. استمر بالبحث.” تأمل يوريتش مشهد سوق العبيد وهو يصفر لحنًا. كان العشرات من العبيد يُباعون كما لو كانوا سلعًا – هذا كل ما كانوا عليه في هذا الجزء من العالم. بوو! سفين قد أحضر معه كل ما تبقى لديه تقريبًا من مال، و يكفي بالكاد لشراء عبد. “همم ” فتش سفين سوق العبيد بعناية. اختار مرشحًا مثاليًا، ثم تقدم نحوه وهمس في أذنه: “اختر يا أخي. هل ستعيش حياتك عبدًا، أم ستأتي معي إلى حقل السيوف؟” فتح العبد الشمالي المقيد عينيه فجأةً ونظر إلى سفين. كانا يتحدثان بلغة الشمال، فلم يستطع أحدٌ فهم حديثهما. “أختار الذهاب إلى الحقل، حيث ينتظرني أولجارو، أخي ” أجاب الشمالي بثقة. بناءً على كلامه، تفاوض سفين مع التاجر على السعر ودفع ثمن حريته. بعد التأكد من المبلغ الذي دفعه سفين، أطلق تاجر الرقيق سراح الشمالي. نقرة. حدق الشمالي المحرّر في تاجر الرقيق بنظرة قاتلة، وانهال عليه بشتائم بلغة أجنبية. “كفى. هل تحاول أن تُعدم هنا على يد الحراس؟” سفين أوقف الشمالي. “هل سينضم إلى فرقتنا؟” سأل يوريتش سفين وهو ينظر إلى الرجل المُحرَّر حديثًا. ناقش سفين شيئًا مع الرجل بلغتهم ثم أجاب. “هذا الرجل محارب. أنقذناه من مصير الموت الشاق كعبد، وهو الآن في طريقه إلى الميدان. سيكون المحارب الأكثر ولاءً لفرقتنا، مثلي تمامًا.” بدا سفين محاربًا صارمًا. لم يره أحدٌ من فرقة المرتزقة يُبذر أمواله على الترف، إذ يدّخر كل ما كسبه لتحرير شعبه. “لو كان إخوتي عبيدًا، لفعلتُ ما فعلتَه يا شيخ. حتى لو كلّف ذلك سفك بعض الدماء…” صمت يوريتش. “احذر من شغفك يا يوريتش. فالصبر قد يكون فضيلةً ضروريةً أحيانًا ” نصح سفين يوريتش، الذي فتح عينيه على مصراعيهما وابتسم. “أنا رجل صبور جدًا يا سفين. أعرف متى أستخدمه ومتى لا أستخدمه.” حدّق سفين في يوريتش. بدا يوريتش محاربًا شابًا قويًا. من الواضح للجميع أنه سيصبح عظيمًا. أراد البقاء بجانبه ودعمه لأطول فترة ممكنة. عاد يوريتش وسفين إلى النزل الذي يقيم فيه المرتزقة. ومع غروب الشمس، عاد الرجال الذين خرجوا لجمع المعلومات. “وجدنا وظيفة جيدة يا يوريتش. إنها من عند اللورد هنا ” قال باتشمان وهو يطلب بيرة. جلس على مقعد ودلك ساقيه المتعبتين بعد يوم طويل من المشي. “مباشرة من اللورد، أليس كذلك؟” “يبدو أنه يبحث عن مرتزقة لمساعدة الجيش النظامي في إبادة قطاع الطرق. اسمع يا يوريتش. هذه هي المدينة. هذا ليس نبيلًا بسيطًا كما قبل، إنه رجل حقيقي! يمكننا التفاوض للحصول على راتب كبير. ربما سيكون هذا أكثر من كافٍ لتبديل هذه الدروع الجلدية المهترئة!” “هووي، يعجبني هذا. الدروع المعدنية لا تناسبني ” لوّح له يوريتش. “لا بأس. لدينا اجتماع معه غدًا. سنتحدث معه حينها ” قال باتشمان وهو يربت على ظهر يوريتش. ابتسم يوريتش ابتسامة خفيفة. “أعلم أننا لم نحصل على الوظيفة بعد، لكن لنستمتع بهذه الليلة! الحياة قصيرة و…” “هناك الكثير من المشروبات! هوه!” أفرغ المرتزقة أكوابهم في لمح البصر، وأغلقوا الطاولات بقوة. هزّ صاحب النزل رأسه حين تردد صدى صوت طقطقة طاولاته في أرجاء الحانة. * * * السور الداخلي في قلب مدينة هافيلوند. الأسوار الخارجية تحمي المدينة بأكملها، بينما الجزء الداخلي منها مقر إقامة النبلاء. منطقة حضرية كهذه المدينة غنية ومتينة، و بمثابة النقاط المحورية في مناطقها. بوو! دخل يوريتش وبعض المرتزقة الآخرين الأسوار الداخلية. وكان خادمٌ دليلهم. يا لها من قلعةٍ رائعة! ” قال باتشمان بدهشة وهو ينظر إلى ممرات القلعة الداخلية. بدت النوافذ مصنوعة من زجاج ملون، مما جعل الضوء يتألق بألوان مختلفة. “هل صنع شخصٌ ما هذه المنحوتات؟” سأل يوريتش بعد رؤية التماثيل النصفية البشرية المعروضة في الرواق. بدت دقيقةً ومنحوتةً بدقة، كأنها بشر حقيقيون. تجولت عينا يوريتش بين الأعمال الفنية. “انظر إلى هذا البربري. هذه تحفة الحضارة.” شعر الخادم بفخرٍ لا يستحقه، وكأن المنحوتات من صنعه. وقد وصلت قصة حرب أخوة يوريتش إلى مدينة هافيلاند عبر أفواه الشعراء. ” من فضلكم، أبقوا أيديكم بعيدة عن التماثيل. هذه تماثيل لملوك سابقين، فإذا انكسرت… لن يعوضها أي مبلغ من المال…” قال الخادم بغطرسة، ثم فتح عينيه على اتساعهما. “هاه؟ هل قلتَ شيئًا؟ همم؟” أدار يوريتش جسده وضرب أحد التمثالين بكتفه. انقلب التمثال وسقط على الأرض. “أوه، كدتُ أكسر واحدًا ” قال يوريتش بلا مبالاة وهو يمسك بأصابع قدميه التمثال الساقط برشاقة. كانت خدعة حقيقية. “يا إلهي!” شهق الخادم وأعاد التمثال النصفي إلى مكانه. ” قلتَ إن هذا الشيء غالي، أليس كذلك؟ إذا كان غاليًا لهذه الدرجة، فاحفظه في مكانٍ آمن! إنه يعيق طريقي لأنك وضعته في أي مكان.” ألقى يوريتش اللوم على الخادم. ضحك المرتزقة الآخرون خلفه. “سأحضرك إلى اللورد فورًا، لذا اتبعني من فضلك. لا تلمس أي شيء آخر، من فضلك!” صرخ الخادم. خاب أمل يوريتش لأنه لم يستطع إشباع فضوله. “هذا مُذهل. “الحضارة” التي أسسها هؤلاء الناس مُذهلة.” بدا يوريتش، مندهشًا ومُعجبًا. الكتابة والفنون والعمارة التي أبدعها هؤلاء المتحضرون، جميعها، في نظره، فاتنة الجمال.
---
ترجمة موقع ملوك الروايات. لا تُلهِكُم القراءة عن اداء الصلوات فى أوقاتها و لا تنسوا نصيبكم من القرآن
أشترك الان من هنا. ولامزيد من الاعلانات