الفصل 34
▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬
اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لاَ أَعْلَمُ
ترجمة: ســاد
▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬
أقام المرتزقة معسكرهم في الجبال بعد السير لمدة نصف يوم.
“نحن أخوة يوريتش، ويوريتش هو أصغر أعضائنا!” صرخ أحد المرتزقة وضحك الآخرون.
“يوريتش، ألا تعتقد أن وجهك يبدو أكبر سنًا بكثير؟ كيف يكون وجه كهذا… هاه! أنت تُجنني ” قال أحد المرتزقة وهو يبصق الماء الذي يشربه.
“اصمتوا أيها الحمقى.”
وضع يوريتش جلد ذئب على الأرض وجلس عليه. أخرج فأسًا وغرزه في التراب.
“هل تريدونني أن أناديكم سادة؟ إخوة أكبر؟ إذًا حاربوني من أجل ذلك.”
لم يجرؤ أحد على مواجهة يوريتش. يمزحون فقط.
بوو!
جمع المرتزقة بعض الحطب وأشعلوا نارًا. وسرعان ما انتشر الدفء في أرجاء المخيم.
“أوه ” تأوه باهيل وهو يخلع حذائه ليكشف عن قدميه المغطاة بالبثور.
“استمر في ذلك يا سيدي.”
أخرج فيليون مرهمًا ووضعه على أسفل قدمي باهيل.
” آه.” ارتجف باهيل من الألم اللاذع. ضحك يوريتش مما رآه.
“ليس وكأنك تُطعن بالسيف. كفى تذمرًا.”
حدق باهيل في يوريتش بسبب تعليقه.
“أنت! هل تظنني فلاحًا مثلكم؟ أنا من أصل نبيل؛ لا ينبغي لي أن أسير على قدميّ على هذه الأرض الوعرة مثلكم!” صرخ باهيل وغضبه يتصاعد.
“لماذا يجب علي أن أمر بشيء مثل هذا، لماذا؟”
كان عليه أن يصعد درب الجبل يومًا كاملًا. أصبحت ركبتاه مشتعلتين، وقدماه ممزقتين. لم يختبر ألمًا كهذا من قبل.
“سيدي، من فضلك اهدأ ” قال فيليون لباهيل بينما ينظر إلى المرتزقة ليتوقف عن استفزاز سيده الشاب.
“اهدأ؟ أتريدني أن أهدأ الآن؟ يا سيدي فيليون، انزل من هذا الجبل الآن وأحضر لي حصانًا!”
“هذا …”
” اللعنة! اللعنة!”
شتم باهيل مرارًا وتكرارًا حتى أنهك نفسه. دفن وجهه بين يديه وانفجر بالبكاء، ناشرًا صرخة شاب حزينة في أرجاء المخيم.
“يا له من ضعيف.”
حدّق يوريتش في باهيل. ذكّره بجوتفال، لكنهما لم يكونا متشابهين على الإطلاق.
“كان لدى جوتفال شيئًا يستحق احترامي.”
عدّل يوريتش قلادته الشمس. ما زال يتذكر كلمات جوتفال.
“العالم المتحضر مليء بجميع أنواع الناس.”
في قبيلته، قيمة الرجل تُحدد فقط بقدرته كمحارب. المحارب العظيم يُعادل رجلاً عظيماً، بينما المحارب الضعيف لا قيمة له.
“في هذا العالم، حتى رجلٌ بهذا الضعف يستحق أن نحميه ونحميه بحياتنا. ما الذي يُحدد قيمة الإنسان في العالم المتحضر؟ هل هو المال؟ أم المكانة الاجتماعية؟”
أُعجب يوريتش بالحضارة. كان الناس متنوعين بقدر كثرتهم. أراد يوريتش فهم قيمهم – عقلية أولئك الذين لم يكونوا محاربين لكنهم ما زالوا محترمين.
” يا سيدي الشاب، هل تستطيع القراءة؟” سأل يوريتش باهيل وهو يجلس أمامه. أخرج كتاب الكتابة الذي أهداه إياه جوتفال.
“كتاب؟” نظر باهيل إلى يوريتش بوجه مصدوم.
“كيف لهذا البربري أن يكون له كتاب؟”
الكتب سلع باهظة الثمن. على الرهبان السهر طوال الليل وقضاء أيام طويلة في طباعة نسخ لإنتاج كتاب واحد. لم يكن شيئًا يستطيع مرتزق، ناهيك عن بربري، حمله بسهولة.
“لماذا أنت مندهش لهذه الدرجة؟ أعرف الكثير من الكلمات بالفعل. هذا ما جاء في كتاب “دليل المبتدئين للكتابة”. ماذا، نبيل مثلك لا يعرف الكتابة؟” قال يوريتش وهو يشير إلى الكلمات بإصبعه.
“لا أعرف كيف أكتب؟ أنا؟ من تظنني! انتهيت من هذا الكتاب المخصص للمبتدئين عندما كنت في السابعة من عمري فقط ” حدق باهيل بغضب في يوريتش.
“حسنًا، علّمني إذًا الأجزاء التي لا أعرفها. لا أستطيع التعلم جيدًا بمفردي.”
“و- ما الذي يحتاجه بربري مثلك لتعلم القراءة والكتابة؟”
” أنا أيضًا أؤمن بـ “لو”. عليّ أن أتعلم القراءة لأفهم تعاليم “لو” بشكل أفضل، أليس كذلك؟ ”
“أوه ” ارتجف باهيل عند سماع اسم حاكم الشمس.
“هاها، كان تعميدي قرارًا جيدًا.”
أهل الحضارة ضعفاء أمام اسم لو. فكلما ارتفع شأن المرء، ازدادت حساسيته لاسمه.
“أوه لو، أريد أن أتعلم المزيد من تعاليمك، ولكن هذا الأخ لن يساعدني!” تلا يوريتش صلاة مرحة.
“حسنًا، حسنًا. أين أنت عالق؟” سأل باهيل على مضض وهو ينظر إلى الكتاب. أشار يوريتش إلى الحروف التي لم يستطع تمييزها.
“آه، هذا ما عليه الأمر. لم أستطع فهمه ” صرخ يوريتش وهو يصفع ركبته.
“الكتاب قديم، لذا أصبح الحبر باهتًا. فلا عجب أنك لم تستطع قراءته.”
تصفح باهيل الكتاب بسرعة. بدا الكتاب بالنسبة له بمثابة لعبة أطفال.
“إنه يتعلم بسرعة.”
شعر باهيل أن يوريتش مختلف وقد أُعجب بقدرته على تذكر تعاليمه.
“عليك أن تعلميه مرة واحدة فقط، وسيتذكر معظم ما تعلمته.”
كانت ذاكرة يوريتش شيئًا أثار دهشة كل شخص متحضر علمه على الإطلاق.
“لماذا تتوقف؟” رفع يوريتش رأسه ونظر إلى باهيل.
“لا، إنه لا شيء.”
ألقى باهيل نظرة على يوريتش، ثم أدار رأسه.
“إنه لا يعبث معي. ذاكرته جيدة جدًا.”
بذل باهيل، على نحوٍ مفاجئ، جهدًا كبيرًا في تعليم يوريتش. الكلمة التي علّمه إياها هذه المرة هي “العالم”.
“هل سمعت عن حافة العالم؟”
سأل يوريتش من العدم. بدا باهيل، بما يليق بمكانته النبيلة، غنيًا بالعلم. حتى عندما يعلم الحروف فحسب، يُضيف بعض المعلومات الأساسية.
“إنه الجرف على حافة البحر. يُشكّل الشلال الذي يمنع البحر من إغراق الأراضي. أول مرة رأيتك فيها كانت أول مرة ترى فيها المحيط، أليس كذلك؟ لم أرَ أحدًا يشرب ماء المحيط من قبل. بدا الأمر مُضحكًا.”
ضحك باهيل، متذكرًا المشهد مجددًا. رأى فيليون ابتسامة سيده الشاب، فتنهد ارتياحًا.
“آه، استعاد سيدي ابتسامته. شكرًا لو.”
رسم باهيل شكلا في التراب.
“هذا العالم مربع مسطح. قارتنا تقع في مركزه، مع جبال السماء في الغرب، وحافة العالم، التي يسميها البعض نهاية العالم، في البحر الشرقي.”
“قال الشماليون إن هناك أرضًا أخرى في نهاية البحر الشرقي، وليست حافة العالم. قالوا إن على تلك الأرض أناسًا بشعر أسود وعيون سوداء. ماذا يُفترض بي أن أصدق؟” سأل يوريتش.
“أرضٌ في نهاية البحر الشرقي؟ من يقول؟ إنها مجرد قصةٍ اختلقها برابرةٌ وهميون لم يسبق لهم أن زاروا هذه الأرض. في نهاية البحر الشرقي جرفٌ صخري. إنها نهاية العالم حرفيًا ” أنكر باهيل وجود أرض الشرق.
“إذن، هل تقول إن أحدهم رأى نهاية العالم وعاد ليروي القصة؟ من؟ هل كنت أنت؟ هل أبحرت كل هذه المسافة ورأيتها بأم عينيك؟”
بدت أسئلة يوريتش لا نهاية لها، لكن باهيل شرع في الإجابة عليها جميعًا، بكل ثقة.
“هناك سجلات. سجلات تركها أناس كادوا يسقطون من جرف على حافة العالم ثم عادوا. قالوا إنه في نهاية البحر الشرقي، لا يوجد سوى الجرف.”
“لذا، ما تقوله هو أنك لم تشاهده بنفسك أبدًا.”
“بالتأكيد. ليس لديّ رغبة في الموت ” سخر باهيل وهو يعقد ذراعيه. فكّر يوريتش في إجاباته، ثم أدار نظره ببطء نحو الغرب. الشمس تغرب في ذلك الاتجاه.
“ثم ماذا يوجد على الجانب الآخر من جبال السماء؟”
ارتعشت زوايا فم يوريتش، وتلألأت عيناه بالرغبة. تسلل وحش الفضول بقوة داخل صدره.
“لا يوجد سوى منحدرات لا نهاية لها خلف جبال السماء. لا أحد يستطيع عبور تلك السلسلة الجبلية ” أجاب باهيل بثقة مرة أخرى.
“حقًا، هاه؟ هل أنت متأكد؟ حقًا؟”
كرر يوريتش وهو يوضح أنه لا يستطيع احتواء ابتسامته.
“بالتأكيد، ماذا، ألا تُصدّقني؟ هل تعلم كم كتابًا قرأت؟ لو جمعتها كلها، لكانت الكومة أطول منك بكثير. الكتب تحتوي على العالم كله. أعرف كل شيء ” قال باهيل وهو يضرب صدره. تكلم فيليون، الذي يستمع إلى حديثهما.
“معلمه قارئ نهم. حتى الكهنة غالبًا ما يُعجبون بمعرفته أثناء أحاديثهم.”
هز باهيل كتفيه بفخرٍ لثناء فيليون. بدا وكأنّ مزاجه قد تحسّن.
“حديثٌ مُمتع. الآن تأكدتُ ” قال يوريتش وهو ينهض من مقعده ويحدّق في الغابة المظلمة. رأى الأرواح الشريرة في خياله. ما زال يشعر وكأن أرواح أجداده وإخوته تُراقبه.
” لأعرف كل شيء عن العالم، عليّ أن أرى كل شيء بعيني. لا سبيل آخر. الكتب تكذب.”
انزعج باهيل من كلمات يوريتش.
“أ-هل أنت تقلل من شأني؟”
شعر باهيل بالغباء وندم على الود اللحظي الذي شعر به تجاه يوريتش.
“في النهاية، البربري هو البربري. لا جدوى من تعليمه أي شيء!”
أصبحت شفتا باهيل ترتعشان.
“نم جيدًا يا سيدي الشاب. غدًا، سأسألك عن عاصمة هامل. لقد زرتها، أليس كذلك؟”
“بالتأكيد، لقد زرتُها! إنه مكانٌ يفوق خيالك البربري الضعيف – إنه رائع! هامل ليست عاصمة الإمبراطورية فحسب، بل عاصمة الحضارة بأسرها – عاصمة العالم! كل الطرق تؤدي إلى هامل!”
ترك يوريتش باهيل الثرثار وعاد إلى مكانه. وبينما كان مستلقيًا، شعر بنظرة حادة على مؤخرة رأسه. سفين يحدق فيه من الجانب الآخر من نار المخيم.
“إذا لديك شيء لتقوله، فقل ذلك، سفين.”
“يوريتش، أنت…”
نظر سفين نحو الغرب وهو يقول. وضع يوريتش إصبعه السبابة على شفتيه وابتسم.
“ش … ”
كان سفين يتساءل دائمًا من أين جاء يوريتش نظرًا لأن تصرفاته وسلوكياته لم تتناسب تمامًا مع الجنوب أو الشمال أو أي مكان آخر.
‘الغرب.’
أرض غامضة لم تكن قد وصلتها النفوذ الإمبراطوري بعد؛ أرض حيث وجودها نفسه موضع تساؤل.
“لقد كنت حقا غريبا.”
الشخص الذي عبر جبال السماء.
* * *
” هيا، واصل طريقك بقوة. أنت رجل، أليس كذلك؟” قال يوريتش وهو يساعد باهيل على النهوض ممسكًا بذراعه. كانت المجموعة تعبر الجبل بأكمله، وحتى المرتزقة بدت عليهم علامات التعب الواضحة بعد أيام من السفر عبر الجبل الوعر.
“عليك فقط أن تصبر حتى نصل إلى الحدود في نهاية مملكة بوركانا، يا سيدي ” طمأن فيليون باهيل من جانبه.
“يا إلهي، يا إلهي ” واصل باهيل مسيرته وهو يشتم. أصبحت قدماه كالعجينة الملطخة بالدماء.
“حسنًا، حسنًا، ألعن ما شئت يا باهيل. هكذا تصبح رجلًا حقيقيًا.” شجّع يوريتش باهيل وهو يربت على ظهره.
قد يكون شابًا نبيلًا، لكنه يتمتع بالشجاعة. يشتكي أكثر من غيره، لكنه يحاول مجاراته بكل ما أوتي من قوة.
عبس باهيل وتسلق التل التالي.
“أنا، أنا، من دم نبيل.”
بدا كبرياء باهيل عاليًا، ووجهه النظيف الأنيق أصبح الآن مغطى بالعرق والغبار. أصبح غارقًا في العرق كما لو أنه قد أُمطرت للتو.
“دعونا نأخذ استراحة قصيرة ” قال يوريتش بعد أن كان أول من تسلق التل التالي. لا يزال مفعمًا بالحيوية والطاقة، على عكس جميع أفراد الفريق. ساعد كل فرد في الفريق على الصعود إليه.
هكذا يقود يوريتش المرتزقة. هذه هي قوته الدافعة، فكّر فيليون وهو ينظر إلى يوريتش. بدا يوريتش قائدًا يُحتذى به في كل ما يفعله. كان دائمًا أول من يتولى أصعب المهام، ولم يكن يتمتع بسلطته قط، ولم يمنح نفسه أي امتياز.
لا يهمّ عمرُه المرتزقة الآخرون. فهم يحترمون قائدهم بالفعل.
لم يكن هناك مرتزق واحد في أخوة يوريتش لم يتلق مساعدة يوريتش في أي شيء.
“سيكون من الغريب ألا يحظى باحترام الجميع بسبب الطريقة التي يتصرف بها.”
على الرغم من أنه أول من تسلق التل، إلا أنه ساعد الأشخاص التاليين له في الصعود بدلاً من أخذ استراحة.
“عيب عليّ، أنا أجعل الطفل الصغير يوريتش يساعدني ” قال باتشمان وهو يمسك بذراع يوريتش. ابتسم يوريتش له.
” باتشمان، تسلق مرة أخرى.”
قام يوريتش بركل باتشمان، وتدحرج إلى أسفل التل.
“يا لك من حقير!” صرخ باتشمان وهو يتدحرج. مؤخرًا، بدا وكأنه يستمتع بمضايقة يوريتش، لكن نادرًا ما كانت الأمور تنتهي على خير بالنسبة له.
“إيه؟”
عبس يوريتش وهو يستمتع بالنسيم للحظة. لاحظ سربًا من الطيور يحلق، وبين الأشجار رأى ضوءًا فضيًا غريبًا.
“دونوفان!” نادى يوريتش. دونوفان، الذي كان أخيرًا يحصل على فرصة للراحة، رفع رأسه بنظرة منزعجة.
“ماذا؟”
“استعدوا للمعركة. إنهم مطاردين.”
عند سماع كلمات يوريتش، نهض دونوفان دون تردد. رؤية يوريتش لا مثيل لها بين أفراد الفرقة. أما بالنسبة للمرتزقة العاديين، فكانت من عالم آخر.
“ليس فقط رؤيته هي التي خارج هذا العالم، بل جسده كله.”
شهد دونوفان قدرات يوريتش عدة مرات بأم عينيه. صادف كل محارب معركة واحدة على الأقل قاتل فيها ببراعة كافية للتفاخر، لكن يوريتش كان محاربًا حقق إنجازًا لا يحلم به المحارب العادي إلا مرة أو مرتين، بانتظام، وبطريقة عرضية.
بدأت عضلات يوريتش في التسخين حيث ارتعشت وأنتجّت حرارتها الخاصة.
“همف ”
هزّ يوريتش رأسه يمينًا ويسارًا. أصبح ذهنه صافيًا. بدا شعورًا رائعًا أن يكون صافي الذهن قبل المعركة، إذ تُطرد كل الأفكار المشتتة. بدا رجلًا خُلِق للقتال.
أقام المرتزقة معسكرهم في الجبال بعد السير لمدة نصف يوم. “نحن أخوة يوريتش، ويوريتش هو أصغر أعضائنا!” صرخ أحد المرتزقة وضحك الآخرون. “يوريتش، ألا تعتقد أن وجهك يبدو أكبر سنًا بكثير؟ كيف يكون وجه كهذا… هاه! أنت تُجنني ” قال أحد المرتزقة وهو يبصق الماء الذي يشربه. “اصمتوا أيها الحمقى.” وضع يوريتش جلد ذئب على الأرض وجلس عليه. أخرج فأسًا وغرزه في التراب. “هل تريدونني أن أناديكم سادة؟ إخوة أكبر؟ إذًا حاربوني من أجل ذلك.” لم يجرؤ أحد على مواجهة يوريتش. يمزحون فقط. بوو! جمع المرتزقة بعض الحطب وأشعلوا نارًا. وسرعان ما انتشر الدفء في أرجاء المخيم. “أوه ” تأوه باهيل وهو يخلع حذائه ليكشف عن قدميه المغطاة بالبثور. “استمر في ذلك يا سيدي.” أخرج فيليون مرهمًا ووضعه على أسفل قدمي باهيل. ” آه.” ارتجف باهيل من الألم اللاذع. ضحك يوريتش مما رآه. “ليس وكأنك تُطعن بالسيف. كفى تذمرًا.” حدق باهيل في يوريتش بسبب تعليقه. “أنت! هل تظنني فلاحًا مثلكم؟ أنا من أصل نبيل؛ لا ينبغي لي أن أسير على قدميّ على هذه الأرض الوعرة مثلكم!” صرخ باهيل وغضبه يتصاعد. “لماذا يجب علي أن أمر بشيء مثل هذا، لماذا؟” كان عليه أن يصعد درب الجبل يومًا كاملًا. أصبحت ركبتاه مشتعلتين، وقدماه ممزقتين. لم يختبر ألمًا كهذا من قبل. “سيدي، من فضلك اهدأ ” قال فيليون لباهيل بينما ينظر إلى المرتزقة ليتوقف عن استفزاز سيده الشاب. “اهدأ؟ أتريدني أن أهدأ الآن؟ يا سيدي فيليون، انزل من هذا الجبل الآن وأحضر لي حصانًا!” “هذا …” ” اللعنة! اللعنة!” شتم باهيل مرارًا وتكرارًا حتى أنهك نفسه. دفن وجهه بين يديه وانفجر بالبكاء، ناشرًا صرخة شاب حزينة في أرجاء المخيم. “يا له من ضعيف.” حدّق يوريتش في باهيل. ذكّره بجوتفال، لكنهما لم يكونا متشابهين على الإطلاق. “كان لدى جوتفال شيئًا يستحق احترامي.” عدّل يوريتش قلادته الشمس. ما زال يتذكر كلمات جوتفال. “العالم المتحضر مليء بجميع أنواع الناس.” في قبيلته، قيمة الرجل تُحدد فقط بقدرته كمحارب. المحارب العظيم يُعادل رجلاً عظيماً، بينما المحارب الضعيف لا قيمة له. “في هذا العالم، حتى رجلٌ بهذا الضعف يستحق أن نحميه ونحميه بحياتنا. ما الذي يُحدد قيمة الإنسان في العالم المتحضر؟ هل هو المال؟ أم المكانة الاجتماعية؟” أُعجب يوريتش بالحضارة. كان الناس متنوعين بقدر كثرتهم. أراد يوريتش فهم قيمهم – عقلية أولئك الذين لم يكونوا محاربين لكنهم ما زالوا محترمين. ” يا سيدي الشاب، هل تستطيع القراءة؟” سأل يوريتش باهيل وهو يجلس أمامه. أخرج كتاب الكتابة الذي أهداه إياه جوتفال. “كتاب؟” نظر باهيل إلى يوريتش بوجه مصدوم. “كيف لهذا البربري أن يكون له كتاب؟” الكتب سلع باهظة الثمن. على الرهبان السهر طوال الليل وقضاء أيام طويلة في طباعة نسخ لإنتاج كتاب واحد. لم يكن شيئًا يستطيع مرتزق، ناهيك عن بربري، حمله بسهولة. “لماذا أنت مندهش لهذه الدرجة؟ أعرف الكثير من الكلمات بالفعل. هذا ما جاء في كتاب “دليل المبتدئين للكتابة”. ماذا، نبيل مثلك لا يعرف الكتابة؟” قال يوريتش وهو يشير إلى الكلمات بإصبعه. “لا أعرف كيف أكتب؟ أنا؟ من تظنني! انتهيت من هذا الكتاب المخصص للمبتدئين عندما كنت في السابعة من عمري فقط ” حدق باهيل بغضب في يوريتش. “حسنًا، علّمني إذًا الأجزاء التي لا أعرفها. لا أستطيع التعلم جيدًا بمفردي.” “و- ما الذي يحتاجه بربري مثلك لتعلم القراءة والكتابة؟” ” أنا أيضًا أؤمن بـ “لو”. عليّ أن أتعلم القراءة لأفهم تعاليم “لو” بشكل أفضل، أليس كذلك؟ ” “أوه ” ارتجف باهيل عند سماع اسم حاكم الشمس. “هاها، كان تعميدي قرارًا جيدًا.” أهل الحضارة ضعفاء أمام اسم لو. فكلما ارتفع شأن المرء، ازدادت حساسيته لاسمه. “أوه لو، أريد أن أتعلم المزيد من تعاليمك، ولكن هذا الأخ لن يساعدني!” تلا يوريتش صلاة مرحة. “حسنًا، حسنًا. أين أنت عالق؟” سأل باهيل على مضض وهو ينظر إلى الكتاب. أشار يوريتش إلى الحروف التي لم يستطع تمييزها. “آه، هذا ما عليه الأمر. لم أستطع فهمه ” صرخ يوريتش وهو يصفع ركبته. “الكتاب قديم، لذا أصبح الحبر باهتًا. فلا عجب أنك لم تستطع قراءته.” تصفح باهيل الكتاب بسرعة. بدا الكتاب بالنسبة له بمثابة لعبة أطفال. “إنه يتعلم بسرعة.” شعر باهيل أن يوريتش مختلف وقد أُعجب بقدرته على تذكر تعاليمه. “عليك أن تعلميه مرة واحدة فقط، وسيتذكر معظم ما تعلمته.” كانت ذاكرة يوريتش شيئًا أثار دهشة كل شخص متحضر علمه على الإطلاق. “لماذا تتوقف؟” رفع يوريتش رأسه ونظر إلى باهيل. “لا، إنه لا شيء.” ألقى باهيل نظرة على يوريتش، ثم أدار رأسه. “إنه لا يعبث معي. ذاكرته جيدة جدًا.” بذل باهيل، على نحوٍ مفاجئ، جهدًا كبيرًا في تعليم يوريتش. الكلمة التي علّمه إياها هذه المرة هي “العالم”. “هل سمعت عن حافة العالم؟” سأل يوريتش من العدم. بدا باهيل، بما يليق بمكانته النبيلة، غنيًا بالعلم. حتى عندما يعلم الحروف فحسب، يُضيف بعض المعلومات الأساسية. “إنه الجرف على حافة البحر. يُشكّل الشلال الذي يمنع البحر من إغراق الأراضي. أول مرة رأيتك فيها كانت أول مرة ترى فيها المحيط، أليس كذلك؟ لم أرَ أحدًا يشرب ماء المحيط من قبل. بدا الأمر مُضحكًا.” ضحك باهيل، متذكرًا المشهد مجددًا. رأى فيليون ابتسامة سيده الشاب، فتنهد ارتياحًا. “آه، استعاد سيدي ابتسامته. شكرًا لو.” رسم باهيل شكلا في التراب. “هذا العالم مربع مسطح. قارتنا تقع في مركزه، مع جبال السماء في الغرب، وحافة العالم، التي يسميها البعض نهاية العالم، في البحر الشرقي.” “قال الشماليون إن هناك أرضًا أخرى في نهاية البحر الشرقي، وليست حافة العالم. قالوا إن على تلك الأرض أناسًا بشعر أسود وعيون سوداء. ماذا يُفترض بي أن أصدق؟” سأل يوريتش. “أرضٌ في نهاية البحر الشرقي؟ من يقول؟ إنها مجرد قصةٍ اختلقها برابرةٌ وهميون لم يسبق لهم أن زاروا هذه الأرض. في نهاية البحر الشرقي جرفٌ صخري. إنها نهاية العالم حرفيًا ” أنكر باهيل وجود أرض الشرق. “إذن، هل تقول إن أحدهم رأى نهاية العالم وعاد ليروي القصة؟ من؟ هل كنت أنت؟ هل أبحرت كل هذه المسافة ورأيتها بأم عينيك؟” بدت أسئلة يوريتش لا نهاية لها، لكن باهيل شرع في الإجابة عليها جميعًا، بكل ثقة. “هناك سجلات. سجلات تركها أناس كادوا يسقطون من جرف على حافة العالم ثم عادوا. قالوا إنه في نهاية البحر الشرقي، لا يوجد سوى الجرف.” “لذا، ما تقوله هو أنك لم تشاهده بنفسك أبدًا.” “بالتأكيد. ليس لديّ رغبة في الموت ” سخر باهيل وهو يعقد ذراعيه. فكّر يوريتش في إجاباته، ثم أدار نظره ببطء نحو الغرب. الشمس تغرب في ذلك الاتجاه. “ثم ماذا يوجد على الجانب الآخر من جبال السماء؟” ارتعشت زوايا فم يوريتش، وتلألأت عيناه بالرغبة. تسلل وحش الفضول بقوة داخل صدره. “لا يوجد سوى منحدرات لا نهاية لها خلف جبال السماء. لا أحد يستطيع عبور تلك السلسلة الجبلية ” أجاب باهيل بثقة مرة أخرى. “حقًا، هاه؟ هل أنت متأكد؟ حقًا؟” كرر يوريتش وهو يوضح أنه لا يستطيع احتواء ابتسامته. “بالتأكيد، ماذا، ألا تُصدّقني؟ هل تعلم كم كتابًا قرأت؟ لو جمعتها كلها، لكانت الكومة أطول منك بكثير. الكتب تحتوي على العالم كله. أعرف كل شيء ” قال باهيل وهو يضرب صدره. تكلم فيليون، الذي يستمع إلى حديثهما. “معلمه قارئ نهم. حتى الكهنة غالبًا ما يُعجبون بمعرفته أثناء أحاديثهم.” هز باهيل كتفيه بفخرٍ لثناء فيليون. بدا وكأنّ مزاجه قد تحسّن. “حديثٌ مُمتع. الآن تأكدتُ ” قال يوريتش وهو ينهض من مقعده ويحدّق في الغابة المظلمة. رأى الأرواح الشريرة في خياله. ما زال يشعر وكأن أرواح أجداده وإخوته تُراقبه. ” لأعرف كل شيء عن العالم، عليّ أن أرى كل شيء بعيني. لا سبيل آخر. الكتب تكذب.” انزعج باهيل من كلمات يوريتش. “أ-هل أنت تقلل من شأني؟” شعر باهيل بالغباء وندم على الود اللحظي الذي شعر به تجاه يوريتش. “في النهاية، البربري هو البربري. لا جدوى من تعليمه أي شيء!” أصبحت شفتا باهيل ترتعشان. “نم جيدًا يا سيدي الشاب. غدًا، سأسألك عن عاصمة هامل. لقد زرتها، أليس كذلك؟” “بالتأكيد، لقد زرتُها! إنه مكانٌ يفوق خيالك البربري الضعيف – إنه رائع! هامل ليست عاصمة الإمبراطورية فحسب، بل عاصمة الحضارة بأسرها – عاصمة العالم! كل الطرق تؤدي إلى هامل!” ترك يوريتش باهيل الثرثار وعاد إلى مكانه. وبينما كان مستلقيًا، شعر بنظرة حادة على مؤخرة رأسه. سفين يحدق فيه من الجانب الآخر من نار المخيم. “إذا لديك شيء لتقوله، فقل ذلك، سفين.” “يوريتش، أنت…” نظر سفين نحو الغرب وهو يقول. وضع يوريتش إصبعه السبابة على شفتيه وابتسم. “ش … ” كان سفين يتساءل دائمًا من أين جاء يوريتش نظرًا لأن تصرفاته وسلوكياته لم تتناسب تمامًا مع الجنوب أو الشمال أو أي مكان آخر. ‘الغرب.’ أرض غامضة لم تكن قد وصلتها النفوذ الإمبراطوري بعد؛ أرض حيث وجودها نفسه موضع تساؤل. “لقد كنت حقا غريبا.” الشخص الذي عبر جبال السماء. * * * ” هيا، واصل طريقك بقوة. أنت رجل، أليس كذلك؟” قال يوريتش وهو يساعد باهيل على النهوض ممسكًا بذراعه. كانت المجموعة تعبر الجبل بأكمله، وحتى المرتزقة بدت عليهم علامات التعب الواضحة بعد أيام من السفر عبر الجبل الوعر. “عليك فقط أن تصبر حتى نصل إلى الحدود في نهاية مملكة بوركانا، يا سيدي ” طمأن فيليون باهيل من جانبه. “يا إلهي، يا إلهي ” واصل باهيل مسيرته وهو يشتم. أصبحت قدماه كالعجينة الملطخة بالدماء. “حسنًا، حسنًا، ألعن ما شئت يا باهيل. هكذا تصبح رجلًا حقيقيًا.” شجّع يوريتش باهيل وهو يربت على ظهره. قد يكون شابًا نبيلًا، لكنه يتمتع بالشجاعة. يشتكي أكثر من غيره، لكنه يحاول مجاراته بكل ما أوتي من قوة. عبس باهيل وتسلق التل التالي. “أنا، أنا، من دم نبيل.” بدا كبرياء باهيل عاليًا، ووجهه النظيف الأنيق أصبح الآن مغطى بالعرق والغبار. أصبح غارقًا في العرق كما لو أنه قد أُمطرت للتو. “دعونا نأخذ استراحة قصيرة ” قال يوريتش بعد أن كان أول من تسلق التل التالي. لا يزال مفعمًا بالحيوية والطاقة، على عكس جميع أفراد الفريق. ساعد كل فرد في الفريق على الصعود إليه. هكذا يقود يوريتش المرتزقة. هذه هي قوته الدافعة، فكّر فيليون وهو ينظر إلى يوريتش. بدا يوريتش قائدًا يُحتذى به في كل ما يفعله. كان دائمًا أول من يتولى أصعب المهام، ولم يكن يتمتع بسلطته قط، ولم يمنح نفسه أي امتياز. لا يهمّ عمرُه المرتزقة الآخرون. فهم يحترمون قائدهم بالفعل. لم يكن هناك مرتزق واحد في أخوة يوريتش لم يتلق مساعدة يوريتش في أي شيء. “سيكون من الغريب ألا يحظى باحترام الجميع بسبب الطريقة التي يتصرف بها.” على الرغم من أنه أول من تسلق التل، إلا أنه ساعد الأشخاص التاليين له في الصعود بدلاً من أخذ استراحة. “عيب عليّ، أنا أجعل الطفل الصغير يوريتش يساعدني ” قال باتشمان وهو يمسك بذراع يوريتش. ابتسم يوريتش له. ” باتشمان، تسلق مرة أخرى.” قام يوريتش بركل باتشمان، وتدحرج إلى أسفل التل. “يا لك من حقير!” صرخ باتشمان وهو يتدحرج. مؤخرًا، بدا وكأنه يستمتع بمضايقة يوريتش، لكن نادرًا ما كانت الأمور تنتهي على خير بالنسبة له. “إيه؟” عبس يوريتش وهو يستمتع بالنسيم للحظة. لاحظ سربًا من الطيور يحلق، وبين الأشجار رأى ضوءًا فضيًا غريبًا. “دونوفان!” نادى يوريتش. دونوفان، الذي كان أخيرًا يحصل على فرصة للراحة، رفع رأسه بنظرة منزعجة. “ماذا؟” “استعدوا للمعركة. إنهم مطاردين.” عند سماع كلمات يوريتش، نهض دونوفان دون تردد. رؤية يوريتش لا مثيل لها بين أفراد الفرقة. أما بالنسبة للمرتزقة العاديين، فكانت من عالم آخر. “ليس فقط رؤيته هي التي خارج هذا العالم، بل جسده كله.” شهد دونوفان قدرات يوريتش عدة مرات بأم عينيه. صادف كل محارب معركة واحدة على الأقل قاتل فيها ببراعة كافية للتفاخر، لكن يوريتش كان محاربًا حقق إنجازًا لا يحلم به المحارب العادي إلا مرة أو مرتين، بانتظام، وبطريقة عرضية. بدأت عضلات يوريتش في التسخين حيث ارتعشت وأنتجّت حرارتها الخاصة. “همف ” هزّ يوريتش رأسه يمينًا ويسارًا. أصبح ذهنه صافيًا. بدا شعورًا رائعًا أن يكون صافي الذهن قبل المعركة، إذ تُطرد كل الأفكار المشتتة. بدا رجلًا خُلِق للقتال.
---
ترجمة موقع ملوك الروايات. لا تُلهِكُم القراءة عن اداء الصلوات فى أوقاتها و لا تنسوا نصيبكم من القرآن
أشترك الان من هنا. ولامزيد من الاعلانات